الحب الصافي – قراءة في رواية “شيء من البعيد ناداني”

رواية “شيء من بعيد ناداني” للروائي المصري أحمد طايل

عندما طلب مني صديقي الكاتب والروائي أحمد طايل قراءة رواية “شيء من بعيد ناداني” حاولت تخمين المحتوى فدارت حولي الندّاهة بألف نداء ونداء إلى سُبل مختلفة. أهي دعوتها أم دعوة قلب ترقبه السماء؟ أهو قدر ينادي أم حلم يستحق النضال لتحقيقه؟
لن أكتب عن التفاصيل وأبطال الرواية، ولا أجيد الكتابة النقدية، بل سأكتب عن الروح التي استحضرها الأستاذ أحمد في شخصياته وأحداث الرواية. تلك الروح المصرية التي يحملها الكاتب عميقة الجذور الإنسانية والروحانية جعلته يجسّدها في شخصيّات تتحرّك مع رؤياه وقراءاته العميقة للمجتمع مازجة الحاضر النابض بالحياة مع تاريخ عريق وحوادث غبرت ماديًا واستقرت معنويًا في باطن الأرض وجوهرها تغذي جذور البشر الممتدة في شرايين من عاش على أرض مصر وشرب من نيلها.

الحب هو العمود الفقري للرواية، الحب بأنواعه وأشكاله تجلّى هيامًا وعشقًا، مودّة وبرًا. العشق الذي يعتري الأنثى عبر ما فجّرته عرّافة بداخل لويزا الإنكليزية في مراهقتها. صراع الانتظار وهم كبير في العادة لكن لويزا ابنة الغرب التي تحب المغامرة كانت تنتظر بشوق إلى المجهول. شيء ما يناديها، يخبرها أنها تنتمي إلى بُعد آخر، يخترق بشرتها التي تحمل ملامح فرعونية كما أخبرها خبير الآثار لاحقًا. الدعم الفكري والمعنوي من والدها عالم النفس ووالدتها المثقفة كانا خير سند لأحلام ابنتهما الوحيدة. وذات صدفة رتّبها القدر تمازج السلبي مع الإيجابي عندما التقت فريد، ذاك القادم من مصر.
الحب الأسري وعادات الصعيد والفلاحين أخذت حيّزَا كبيرًا من الرواية. يتجلّى ذلك في احترام الوالدين والأخذ برأيهما كشيء مقدّس مغموس بالحب والوفاء. كما يتجلّى في الرباط الأسري العميق المجبول برباط الدم خاصّة في العمق المصري في قدسية أزلية أبرزَها الأستاذ أحمد بحرفية وواقعية. برز الحب الأسري بوضوح عندما توفي والد السيد جلال من دون أن يوضّح سبب هجرانه لقريته التي لم يعد إليها مطلقًا منذ أن هجرها شابًا من دون سابق انذار. تلك النقطة الشاحبة في سجل والده المحترم أرّقته حتى أثلج قلبه من أخبره صديق والده الصدوق بالحقيقة غير المتوقعة. الحب الذي يحفظ البر والوفاء حتى بعد الفراق هو حب أصيل تشرّبه مع كل نقطة حليب وماء.

حب الوطن هو الفخر والانتماء الذي تجلّى بإبراز صورة مصر بتنوعاتها الحالية والغوص في تفاصيل مصر الفرعونية للعائلة الإنكليزية التي كانت مهيأة إلى حد ما. ابراز مصر الحضارة والفن والعمق الفكري من خلال ابراز ما يُثبت ذلك يؤكد عمق الجهد الذي قام به المؤلف في البحث عن مصادر موثّقة ومثبتة. تشكيل شخصية فريد، الشاب المصري بمناقب إنسانية تحمل الروح المصرية ما هي إلا انعكاس واضح للشاب المصري المعاصر الذي لم تتلوّث أصوله مع جرف الحضارة الغربية. ربما تكون رسالة من الكاتب إلى ما يعنيه ارتواء الإنسان من جذور أرضه حتى الثمالة.

وفي النهاية، أبرز الأستاذ أحمد عمق الحب المصري الفطري لرّبه بنقاء العبد الصالح كان سببًا في اسلام الأسرة إنكليزية بعد تكاثف أنواع الحب بين فريد ولويزا حيث تعمّد الكاتب ابرازه نقيًا طاهرًا أثمر عن زواج حضارتين مختلفتين القيتا في حب مصر، قديمها وحديثها بعيدًا عن نكأ العرّافة أحلام الشابة لويزا التي استجابت للندّاهة حيث أوصلها الطريق إلى محطّة السكون.

توليفة الأحداث بين مصر وبريطانيا بسلاسة أخذت مجرى طبيعيًا متوازيًا مع يوميات الأسرة المصرية بعمقها الأسري الريفي، من عادات وتقاليد وثوابت تتنقل من جيل إلى جيل رغم تعرّض الأجيال الجديدة لعصف المدينة. أعتقد أن الكاتب أراد ابراز أهمية الجذور الحضارية بعمق ثوابتها الوجدانية والإنسانية ودورها في تلاحم الأسرة والتصاقها بالأرض رغم تعرضها لآفات الوجود الأليمة من خلال وقائع حقيقية نقلها بقلم بارع إلى صفحات مشوّقة.

ألف مبارك للأستاذ أحمد طايل على هذا الإنجاز الروائي في حب مصر.

محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا