اشتياق

الفوضى البشرية سيمفونية معقدة كتبها عباقرة وأغبياء في آن، رتّلتها أصوات رخيمة وأخرى نشاز. بل رسم لوحتها عباقرة فن أصيل من وحي  نشاز البشر. رغم ذلك نسعد ونفرح مجبرين على ارتواء دموع الحزن والفرح. لا يهم أي الدمعتين تروي سهوب الخد وهضابه أولًا، فنحن كبشر مبرمجين على تقبل صفقة الوجود كما هي. المهم أن ترتوي مشاعرنا بشيء انساني يتآخى مع صيرورتنا. لم يشتكِ أحد جهرًا إلا القليل، ومن باح بشكواه من حلى دمعة أو ملوحتها انهمرت عليه أصوات اللوم والعتب لتمرده على قدره وعلى نِعم الخالق الذي هو أدرى بما نحتاج

لكن من حظِّي الجميل، كما أعتقد، هو أنني ولدت في منتصف القرن الماضي حيث أنقذني الابداع. البشري من آفات الأزمنة الغابرة. فور وصولي إلى منتصف العمر اجتاحني إعصار التكنولوجيا المستقبلية فغدوت مخضرمًا كالناقة التي فقدت أذنًا، فأورثتنا هذه الصفة. هزّني الاعصار، قلَب حقائق وغيّر أخرى، أسقط المسافات، قلّص الأزمنة، نشر المعرفة خيرها وشرّها فاختلطت حبال الحقيقة مع الزيف. ارتفع السوقة إلى حيث لا يحلمون فدخل وباء النفاق والفساد سوق الوجود فأضحى الزيف رمزًا يُـحتذى به. تسللت إلى حيّز صغير بالكاد يروق للبشر. به سرير يتسع لمنامي، تجاوره طاولة تتسع لفنجان قهوة. أحيانًا أستخدمها كمحطة لما يسد جوعي، وأحيانًا أخرى كمسطح يروق لحاسوبي الذي يحفظ أسرار هلوساتي أفكارًا. عندما يتمرد الحاسوب بطرح أفكار لا تروقني أنفيها إلى غيابات الوجود بضغطة زر. أجد ذلك من حسنات إعصار التكنلوجيا، إذ أنني في العصر السابق كنت اُحرج من الخبيث الذي أطرده بأدب من باب المنزل فيدخل بيتي غصبًا عني، خبيثًا، من الشباك. حاولت احكام النوافذ كي أتخلص من وباء محتم، فيعود الطريد برفقة صديق يكفل بقاءه في صراع اجتماعي أسوأ من سكرات الموت. الغريب أنه في عالمي الجديد، الحداثي لا أحتاج إلى التواصل مع البشر لأن جنتي الصغيرة عالم متكامل، بحجم الكون. جنّة بكل معنى الكلمة. أطلب المعرفة فأجدها من دون منّة، آمر فأجاب. كل احتياجاتي المادية تصلني تلبية لأوامري. في عالمي الخاص ألف ألف جميلة، فيض من الموبقات والجميلات الاتي لا يخجلن من البوح بمشاعرهن، ولا أجد غضاضة في عشق ألف أنثى في آن. ها أنا أشكّل عالمي كما أحب من دون انتظار الآخرة لتنفيذ رغباتي وشهواتي.

آه من هذا الجمال واللذة، تلك التي تكاد أن تكون كاملة لولا بعض الثغرات التي أعمل على تصحيحهاأشتاق للشمس والمطر، للبحر والطير وريح البشر. لزهرة تبش لي، وقط يموء حولي. إلى ذاك الشيخ التائه وتلك المتسولة المنافقة. كم أشتاق لصوت طفل يخترق صخب المدينة وهو يسارع كلبًا بين حواريها.  أشتاق أن ألامس بشرة إنسانية لأتأكد من أهلية مشاعري. اشتاق أن أسمع نبض قلب ما لأروي وحدتي التي لم تسمع نبض قلب منذ تكوّري في حيّزي الصغير من هذا الكوكب. 

كم أشتاق أن أعود لبشريتي، لإنسانيتي قبل أن أصبح آلة يبرمجها جهاز ضبط نائي من مكتب فاره لمخلوق لا ترويه دمعة فرح أو حزن.

اترك تعليقًا