غضب الطَوطَم ورضاه

الشاب يافع، صحيح البنية، جامعي، يسكن في المدينة وحيدًا لبضع سنوات خلت. فقد عمله ومدّخراته مما أفقده اشتراك الكهرباء والهاتف مزامنة مع فقدان ما يؤكل أو يشرب. لم يجد حلًا فقرّر التوجه إلى زعيمه مسترحمًا طالبًا عونه. لم يَسمح له أحد بالاقتراب من بوابة القصر رغم معرفتهم به تحت حجة “لم تعد من المقربين”.  لم يعرف سبب غضب سيده ولم يشرح له أحد من أقرانه المقربين السبب. حاول الاتصال بالزعماء المحليين والروحانيين من دون طائل. بعد يأسه توجّه إلى من في السماء للمرة الأولى في حياته. توجّه شاكيًا داعيًا في ليل ونهار من دون جدوى. استعان بالأنبياء والقديسين في نجوى مستدامة فلم يحظَ برد. أصيب بإحباط متعدد الوجوه قصفه من في الأرض والسماء ففقد الأمل برمق حياة وسقط مغشيًا عليه من الإرهاق وتراكُم جبال الهمّ على كيانه.

صحا بعد برهة من الزمن على سيمفونية الجوع الصاخبة ووخز حموضة المعدة التي تسلقت درب المريء إلى حنجرته. فقد ادراكه وخرج من البيت مذعورًا مستنجدًا. رأى أمام المخبز المجاور فرشًا مليئًا بالخبز الطازج فجاشت معدته وتوارى الخجل تحت وطأة البقاء فمدّ يده إلى ربطة خبز واستلها من جماعتها كمن يستل سيفًا قاطعًا يجزّ به رقبة الجوع وانطلق مسرعًا يلتهم أحد أرغفته. أمسك به الحارس وتجمهر عدد غفير من حماة “الإنسانية” وكالوه ضربًا وشتائم يندى لها الجبين حتى وصل الدرك الذي اقتاده مكبّلًا. في المخفر، قال له الضابط بعد مراجعة التهمة: أليس لك كبير تلجأ إليه؟

قال الشاب: لم أتناول شيئًا منذ أيام. لم أسرق إلا خبزًا.

الضابط: لو ذهبت إلى زعيمك لرمى لك من فتات كلابه شيئًا.

الشاب: لا الزعيم ولا القريب استجابا.

حقن الضابط غيظه وقال الضابط: لو أنك دعوت من في السماء ليسّر لك ما يقيتك. ألا تخجل من نفسك، تسرق خبزًا وغيرك يسرق الملايين!!!
ابتسم الشاب ابتسامة مرار وهو يتمتم: لو أنك تعلم أن دروب السماء قد حُجبت عن هذا الوطن كما حجب الزعيم أبواب قصره لما نصحتني.

استنفر العسكري وقال: لص وكافر. كيف تجرؤ على قولك يا هذا؟ بل كيف تجرؤ على تشبيه الزعيم بإله السماء.

ضحك الشاب وهو يقول: إله الأرض أقرب منالًا.

لطمه الضابط فلم يكترث وتابع: أتضحك عليّ أم على نفسك يا صاحب النجوم. كلنا في هذا الوطن لا نخاف الله قدر مخافتنا الزعيم الذي بيده مفاتيح الوظائف كما مفاتيح الكهرباء. هو من يتحكّم بالأسعار، وهو من يقدّم المعونات للمخلصين الخانعين من بني طائفته. أليس الزعيم هو الطوطم الأكبر على طواطم الطائفة؟ ها قد غضب عليّ زعيمي لسبب لا أعرفه فمنع عني الحياة. ولو أمر بإخلاء سبيلي ستفعل رغمًا عنك. إنه الإله الفعلي الذي نعبد. لذلك لم يعد رب السماء يكترث لنجوانا.

العسكري: أنت مجنون، لن تخرج من السجن مهما حصل.

الشاب: عندما يعبد الناس طواطم صنعوها ويستغيثون على أبوابها طالبين فتاتهم. اختيارهم لمن في الأرض ابعد من في السماء. ها أنا ومثلي كثير لم أرفع كفيّ للسماء إلا بعدما يئست من زعيمي وحاشيته. أترى من في السماء يرضى أن يكون اختيارًا آخر؟

جاشت في نفس الضابط مضغة ايمان فأسمك برقبة الشاب وهو يقول: كفرك وتعديك على الذات الإلهية يجعلني مضطرًا أن ألقي بك في غيابات السجن لسنوات طويلة. سأكتب في تقريري ما يثبت كلامي.

لم يكترث الشاب، بل فرح كونه سيجد مكانًا يأويه ويطعمه ويحميه مما هو فيه. فجأة رنّ هاتف الضابط.

بعد سماع المتصل أجاب: حاضر سيدي. حاضر.

نادى الضابط على الحارس وقال: خذ هذا الكلب واوصله إلى سيارة الزعيم في الخارج. لقد تمّ إخلاء سبيله.

رفع الشاب يديه إلى السماء وقال: شكرً يا رب لأنك أوعزت إلى سيدي أن يرضى عليّ.

  محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا