الكُرَة والرؤوس


على هامش مونديال – 2022

مع أن كرَة القدم لا تقدّم ولا تؤخر في مسيرة بناء الوطن أو اللحاق بركب العولمة المصرّة على تهميش مزارع الشرق الأوسط، فقد حازت على اهتمام غير مسبوق من شعوب المنطقة العربية، إذ لم يبق كبير أو صغير وحتى “المقمط بالسرير” إلا واتّخذ فريقًا يناصره، بل فريقين. فريق عربي لتلميع صورته الوطنية الشاحبة وفريق خارجي يبثّه ولاءه الصادق. لا ضير في ذلك لو كان مدماك المواطنة صلبًا قويًا، غير أن هشاشة ثقافة المواطن وتفاهتها وترهل وطنيته أقنعاه بأن فريقه العربي ما هو إلا وجود وهمي لا يُسمن ولا يغني من جوع مثله كمثل بقية أحلامه التي تحطمت على صخرة الفشل والخيانة والمذلّة بدءاً من تحرير فلسطين وحتى انهزام أعرق العواصم العربية.

الاهتمام بمباريات ونوادر المونديال طغى على كل مرافق الحياة العربية وعلى جميع المستويات، كما استنزف قروش المواطن المعدودة في تفرغٍ مرعب لمتابعة ومشاهدة عشرات المباريات في بلاد تنوء تحت خط الفقر، تُلهب شعوبها سياط المستبدين الذين يحاربون مواطنيهم في أدنى متطلبات الحياة. من هنا وجدت أنه لا بُدَّ من التساؤل عن الرابط القوي بين كرَة القدم والشعوب العربية.

بعد التمحيص في خوابي العقل الباطن وتحليل الروابط التي تجمع بين كرَة القدم والإنسان العربي وجدت أن العلاقة بين الرأس العربي وكرَة القدم قويّة جدًا بما يتجاوز استدارة كل منهما. رغم شهرتها، الكرَة ما هي إلا كيان منفوخ يتّخذها اللاعبون وسيلة تنافس وتسلية، تتقاذفُها أقدام اللاعبين ركلاً ورفساً، وتتناطحها الرؤوس من دون هَوادة غير عابئة بكينونة الكرَة بحد ذاتها. ومتى أصيبت الكرَة بتلف ما، تُرمى في القمامة من دون أسف عليها، ذلك أن هناك الاف الكرات تنتظر دورها للاستمتاع بالركل والرفس وتموت شهيدة في سبيل لاعب من بني البشر.

حال الكرَة كحال المواطن العربي الذي ينال ما لا يحصى من الركل والرفس المتتابعين والمتواليين على مدار عمره مهما طال بصبرٍ لا يطيقه حمار جبلي صبور. المواطن اللبناني خير مثال على مقاربته مع “الفوتبول” كما يحلو للبنانيين تسميته. ففي لبنان عدّة أندية في تنافس دائم على مونديال الحكم الذي لا ينتهي. أندية دينية وطائفية، حزبية وعشائرية وأخرى لم يتم تصنيفها بعد. هذه الأندية تتقاذف المواطن اللبناني بكل وسيلة متاحة بعيداً عن شرعيتها وإنسانيتها، كُرات بألف لون ولون، ألوان توارَثها المواطن، وألوان صبغته بها طائفته، حزبه أو عشيرته. بل هناك كرات كثيرة متلونة كالحرباء في كل ملعب، كرات يعتز بها زعيم الطائفة وطوطم الحزب كونها تتسلل هدفاً بيِّناً في شباك “ابن الكلب” المنافس على الطرف الآخر. أهداف كثيرة تسجل يومياً في كيان المواطن اللبناني من هدّاف آخر عيّنه الزعيم ليقتنص أعداء الطائفة بهدف سام يقضي على أي مشاعر وطنية وانسانية. تُسدّد عدّة أهداف في شباك المواطن اللبناني في اليوم الواحد من دون أن يسمح له بالاعتراض الفعلي، فمن قوانين السير التي ينتهكها كل من يتمتع بغطاء حزبي أو ديني أو عشائري في حق أي مواطن “عادي” إلى الرشاوى التي عليه أن يدفعها ليحصلَ على أي خدمة حكومية أو غير حكومية. ناهيك عن هدف انقطاع الكهرباء المستمر الذي يجبر المواطن على صرف مأكله ومشربه لتأمين الطاقة من عصابات منظّمة تنافس عصابات تأمين الماء المسروق. والهدف الأكبر الذي تسجّله السلطة هو التعليم الحكومي السيئ الذي يسعى جاهدًا لإطفاء جذوة المعرفة من عبيده الجدد. ولا ننسى الهدف الذهبي الذي يحتكر الوظائف لمن يقدم قرابين الولاء ويتعهد بنهب مرافق الدولة بما يرضي سيّده. أما الهدف الذي لا يغادر شباك المواطن هو الضريبة المضافة التي تُدفع إلى خزينة سرقها النظام، عبر تاجر هرّب بضاعته برشوة نالها مسؤول يتستر بغطاء مقدّس من مسؤول ينادم الشيطان صبحاً ومساء.

من يعترض على الأهداف؟

من يحرس الشِباك؟

نصيب المعترضين حاوية القمامة التي يفخر الزعيم باقتنائها. هناك سيقضي المواطن المعترض قرضًا من فئران السلطان أو عفنًا من أوبئة النظام المترهل. حاويات تتمتع بحراسة كلاب شرسة تربت في مزبلة الحقارة الوطنية.

كرات البشر التي تُركل ألف مرة في اليوم ليست طفرة عربية، بل هي قطعة في موزاييك الديكتاتورية العربية التي تتنافس دورياً على مونديال السلطة، تتقاذف رؤوس المواطنين، تركلهم في ضربات التسديد والجزاء، كما ترفسهم في التمرير، وترميهم في حاويات العبودية بعد إعلان النتائج التي تهلّل لها باقي الكُرات المرتدية أساور عبوديتها بفخر المذلّة.

يرى المواطن العربي في كرَة القدم توأم حياة ورفيقة مصير. كلاهما يُركل ويُرفس من دون احتجاج، كلاهما تُرفع الشعارات باسمه حتى ينتهي أمرهما في حاوية قمامة يعشقها الذباب بأنواعه وألوانه كما تعشقها فئران السلطة وصراصيرها… وتبدأ المباريات

من يفخر بتكسير رأس المواطن العنيد؟

تجمهر الهدافون… أطلق الحكم الصفارة … والركلات جماعية

هدف… هدف…هدف في كينونة المواطنين

تحققت الأماني وسُدِّد هدف آخر في قلب الوطن بأقدام وطنية تنتعل أحذية صُنعت في دولة “صديقة”.

الهدف القذر يُفرح أصحاب الأندية الطائفية، يصفقون، يشربون نخب رؤوس تصطف خانعة لتركلها قدم مقدسّة باركها زعيم يعشق ركل الرؤوس الحرّة حتى تنزف كرامتها.
غداً مباراة أخرى

محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا