أرغفة البُـعد الآخر

في بُعد آخر من الكَون تُقيم أفران الخُبز ككائِن مُنفصل، قريبًا من البراكين حيث تستمدّ طاقتَها غِذاءً لإنتاج الخُبز الطازَج مع كلّ صباح. يقطُف البعضُ الأرغفة التي يَشتهيها ويحتاجُها وينتظر البعضُ الآخر وقتَ الظهيرة عندما تتطاير الأرغفة مسرعة إلى مسافات بعيدة، ناثرةً عبَق الطبيعة في فضاء البلاد، باحثةً عن أنوف تُثيرها شهوةُ الجوع لتقتَحمَ عُذريّة الرغيف. كانت الأرغِفةُ تقتربُ من أي كائن يرغب بها من خلال حركات تمرّست بها كائنات الكوكب. شيّد تُجار المناطق البَعيدة المصائِد ووظّفوا فِرقًا تجمَعُ الخُبز لبيعِه لمن لم يسمح له وقتُه أو بُعده عن الأفران من الحُصول عليها. لكن، قُبيل الغروب تَعود الأرغِفة التي لم يحظَ بها أحد إلى أُمّهاتها الأفران باكِيةً نادِبة كونها لم تحصل على من يَشتهيها.

في البداية لم تكُن عودة بضعة أرغفة إلى الفُرن الأُم مُشكلة، إذ تُكدّس في مَقبرة جانبيّة حتى تقضي عفنًا أو يباسًا ثم يُعاد تدويرُها من دون أي مشكلة. لكن في الفترة الأخيرة ولظروف مناخيّة صَعبة تَناقَص عددُ الكائنات التي تقتاتُ على الرغيف فتزايَد عدد الأرغفة المتعفّنة واليابِسة حتى ضاقت مِساحَةُ المقبرة وضاقت الأُمّهات ذرعًا بالعائدين. أخذت الأرغفةُ غير المحظوظة بالتسكُّع على الطُرقات وفي الأماكن الخربة حتى لا توبخها الأم وتقطعُها إربًا قبل رميها في مقبرة عطِنة مكدّسة بعوانِس الخبز. لم يكن بمقدور الفُرن الأُم تقبُّل جميع العائدين حتى لا تتسمّم جذوره ويَعجَز عن إنتاج أرغفة صحيّة طازجة تثير شهية الجائعين. ذات مرّة، تمرّد أحد الأفران بسبب الضغط النفسي وأنتج أرغفة موبوءة مما تسبب بتسمم كثير من المخلوقات فاضطُرّت السُلطات إلى تدمير ذاك الفرن تحت حِراسة ووقاية شديدين وشكّل درسًا قاسيًا لجميع الأفران.

أول رغيف ولد هذا اليوم كان مميزًا، يحمِلُ عبقَ القمح الصافي والأعشاب الطازجة، ذهبيّ الوجه، كاملُ الاستِدارة. خرج ببَهجة للقاء من يشتهيه ويُذيبه في فمه فيقضي شامخًا لاكتمال مُهمّته “الفرنية”. لكن لم يقطُفه أحد من أغصِنة الفُرن ولم يبدِ أحد رغبة به خلال طيرانه رغم تراقُصه على أنغام جوعهم. لم يكترِث له صيادو الأرغفة الذين لم يعودوا يجمعون إلا القليل الذي يتناسب وعدد المستهلكين المتناقِص. تلاشى عبقُه آخر النهار، وباخَ لونُه وبدأت تظهر على سطحِه طفحات العفَن فخجِل من نفسِه، وخاف أن يعودَ إلى فُرنه فتُقطّعه الأم وترميه في مدفن الأرغفة البائِرة. رأى ركامًا مهجورًا فقرّر الهبوط علّه يموت بكرامتِه بعيدًا عن الشماتة. ما أن حطّ على بعض الركام وهدأت حركتُه حتى سمِع رغيفًا يابسًا يقول له: يبدو أنك تتعفّن وتخافُ العودة أيها الجبان!

ردّ العفِن على اليابِس: كم أنت لئيم في سكَرات موتك. ألا ترى أنك لو تعرّضت لأي لَطمة ستتفتّت إربًا؟

أجاب اليابس: كِلانا يا زميلي سنَموت بكَمد، فلا نحن أدّينا مُهمّتنا ولا نستطيع العودة إلى ملاذِنا، لقد أصبح الملاذ عدوًّا.

قال العفِن: أراك كبيرَ السِنّ، ويجدر بك أن تكونَ لطيفًا مع من وُلد هذا اليوم. ارأف بحالي.
اليابس: ولدتُ منذ أشهُر واستقرّيت ها هنا بعد نبذي رجاء الموت بشرف. لكن لم يهاجمني العفَن ولا لطمني أي شيء لأتكسّر وأفنى. حتى الحشَرات زهدت بي وابتعدت عني.
بدأ بالبكاء والنحيب وهو يقول: هل أنا موبوء؟ أم مكروه؟ لا أحد يريدُني حيًا أم ميتًا.

أخذ العفِن يواسي اليابِس ردحًا من الزمن حتى رآهما طيرٌ عابرٌ وسمِع حكايتُهما فطار إلى والديهِما وقال لهما: أليس من العارِ أن تموتَ زهرات أفرانِكم موتًا حقيرًا مُذلًا. رأيتُهم يصارِعون الموتَ عفنًا ويباسًا حتى زهِدت بهم الهوام.
ناست حرارة الفرنين حتى كادا أن ينطفئا ويموتا كمدًا.  وصل الخبر إلى عَميد الأفران الذي عقد اجتماعًا طارئًا لجميع الأفران عبر حاسية التخاطُر عن بُعد التي تُعتبر وسيلة التواصُل الأولى على كوكَبهم. بعد نِقاشات عاطفية وجادّة لم تُفرز عن حلّ معقول انبرى فرن يافع وقال: منذ أيام، سمعت عبر محطّة المجرات بوجود كوكب صغير اسمه الأرض يعاني نقصًا حادًا في إنتاج الأرغِفة.

سأله العميد: وهل مرِضت أفرانهم فعجِزت عن تلبية حاجاتهم.
ردّ فُرن عتيق وقال: في البُعد الآخر أفرانُهم ليست كائنات مِثلنا، بل يبنيها سكانُهم بجُهد كبير، وعليهم أن يزرَعوا القمحَ ويصنَعوه بأساليبَ بدائية ويجدوا مواد احتراق للحصول على طاقة لخَبزِ أرغفتِهم.

سأل أحدُهم: وما هو القمحُ الذي تتحدّث عنه؟

إنها المادة التي نُنتجُها طبيعيًّا من خلال تفاعُلاتنا الكيميائية عبر جذورِنا الممتدّة إلى باطن كوكبنا.

ضحك السائل وقال: جذوري تمتد آلاف الأميال لأحصل على أجود المواد كي أُثمِرَ أفضَل الأرغِفة عبر المجرّة.

ردّ فُرن آخر بغضَب: كلّنا نُنتج أفضل الأرغفة، لا تكن مُتعجرفًا.

قال العميد: دعونا من المهاترات والجِدال العَقيم ولنرَ كيف يمكننا مساعدتهم ومساعدة أنفسِنا للنجاة من فناء. سأتواصل مع هيئة المجرّات لأبحثَ إمكانية تصدير أرغفتِنا إليهم.

وافق الجميع على هذا الاقتراح الذي جاء الردّ عليه بعد أيام كما يلي: “تواصَلنا مع مندوبي مجرّة درب التبانة الذين أكدوا الخبر وهو أن كوكبًا صغيرًا اسمه الأرض عليه كائنات طفيلية تستهلِك من الأرغفة أكثر مما تستهلِك المجرّة بأكملها. ولسوء إدارتهم وجشعِهم أصبحوا يُعانون نَقصًا في إنتاج الأرغِفة على أنواعها. لذلك نرى أنهم سيرحبّون بهذه الفِكرة، لكن المشكلة تبقى في صُعوبة نقل أرغِفتِكُم بصورة طازَجة رغم كلّ التكنولوجيا المتقدّمة. أخطِرونا بردّكم.

بعد نِقاشات وأبحاث طويلة علمت الأفران أن المشكلة متفاقِمة في بؤر محدّدة من كوكب الأرض التي تُعاني المجاعة أو سوء الإدارة. المساعدة الوحيدة كانت في نقل بعض الأفران إلى تلك المناطق. بعد فترة الأبحاث والتواصل مع كوكب الأرض صرّح عميد الأفران أنه تمّ تحديد ثلاث بؤر اكتسحتها المجاعة ومنطقة صغيرة اسمها لبنان تتعرض للتجويع القسري من كائنات تتّخذ شكلًا بشريًا.  تتمتّع الأفران  الـمَنْوي إرسالُها بقدرة  إنتاجية عالية لجعل الرغيف سِلعة مجانيّة متوفرة لمواطني هذا البلد المحكوم من كائنات طفيليّة تتخذ من أجساد الأموات ملاذًا.

تحملّت هيئة المجرّات تكاليف عمليّة النقل متخذة إجراءات السّلامة لإيصال الفُرن المختار سليمًا إلى المكان الأمثَل الذي يحددّه علماء الجيولوجيا. تحتاج جُذور الأفران التي تنفُذ إلى أعماق الأرض بقوة جبارة إلى مناطق مُحدّدة تحتوي طبقاتُها على كل المواد الضروريّة للفُرن لإطلاق أرغفتِه الطازجة وايصالها إلى كل جائِع.

أعلنت الأمم المتحدة على كوكب الأرض خَبر الإغاثة فقامت قيامة مُنتجي النفط والقَمح وأصحاب الأفران خاصة في البلاد المحتاجة لتلك الإغاثة. بما أنّ القرارَ كوني بقيت الردود نارًا تحت الرماد. أمّا في لبنان فتأهبت الميليشيات الطائفيّة وطالبت كل واحدة بحقّها في مُلكية الفرن المزعوم. كما استُنفرت المراجِع الدينية لإيجاد فتوى تُفصّل، حسب قرار الجناح العسكري في كل طائفة، مضارّ الرغيف الكوني من دون أي تفسير علمي يتوافق مع طبيعة الفُرن-الكائِن أو دِراسة مُنتِجه.

ما أن اقترب الصحن الطائِر العِملاق من سماء البلد حتى بدأ المسلحون يتوزّعون على مراكز عسكرية في مناطِقهم في حالة تأهّب قُصوى من دون تعليل يذكر. أخيرًا هبطَ على قمّة جبل على السلسلة الغربية لتتوزع الأرغفة الطائرة في أنحاء لبنان بالتساوي. أصاب الموقع الفرقاء كافة بخيبة أمل إذ لا حضور يذكر لأي طائفة. لكن لم يمنع ذلك المسلحين بأعدادهم الهائلة من انشاء طوق موشّح بألوان الطوائِف المتناحرة حول مكان هبوط المركبة. استقر الفُرن وامتدّت جذورُه وخراطيمُه في عمق الأرض، خلال بضعة أيام، كحفّار الأنفاق الخبير، وبدأ يُثمِر ويُنتج أرغفة الخُبز التي طارت وتوزّعت على مِساحة الدولة. تريّث الناس لبعض الوقت في قطف واصطياد الأرغفة المتطايرة تحت ضغوط رجال الدين الذين ادعوا أن موضوع الأرغِفة الكونية يتعَارض مع روح الإيمان التي لا تريد خيرًا إلا من الله. كذلك أشاعت فرق تابعة لمافيات الأفران أن الأرغفة الكونية تحمِل أوبئة شيطانيّة تؤدي إلى الكُفر الذي يستحقّ عِقاب النار. أشعلت رائحة الخُبز الطازج جذوة الجوع في أجسادٍ كثيرة فامتدت الأيدي إلى فضاء الشبَع الذي أمطرَهم بما يُسرّ ملَكَة المذاق ويُسكت صُراخ المعِدات الخاوية. لم يرضَ الحكام، الذين عملوا لعقود طويلة على إذلال شعبهم بطرق مختلفة  أشرسها التجويع،  بهذا الوضع المريب الآتي من بُعد آخر. ضيّقوا الحِصار على الفُرن-الكائِن الذي لم يعرف كيفية التواصل معهم ولم يكترِث الزعماء لتحذيرات هيئة المجرّات من عواقب تصرفاتهم غير المسؤولة. بل، نشروا شِباكًا حديدية على فضاء الفُرن ليمنَعوا تطايُر الأرغفة. ثار الجياع مطالبين بالخبز المجاني الطازَج الذي كان بلسمًا لصحتهم فلم تعد تعاني من المواد الكيميائية المضافة وسموم الطحين الأبيض المعالج. أغراهم أصحاب الأفران بتخفيض أسعار الخبز من دون جدوى، كما أسرفت الميليشيات في عِقاب من استحوذ على لُقمة تُشبعه. تراكمت الأرغفة في فضاء الفرن-الكائن وتعفّنت وأحدثت ضغطًا هائلًا في كينونته أدى إلى انفجاره انفجارًا أعتى من انفجار مرفأ بيروت مُحدثًا غمامة سامّة عمّت المنطقة بأسرِها وحجبت عنها نور الشمس لأيام. بدورها حرّكت الرياح تلك السموم إلى القارات والبلدان المجاورة مُسببة موتًا جماعيًا تجاوز أعداد الحرب العالمية الثانية.
رنّ هاتف زعيم لبناني يعيش في جزيرة نائية فردّ على صديقه زعيم الطائفة الأخرى الذي قال: ألم أحذرك من هذه النتيجة؟ لكن الحمد لله أنك سمعت النصيحة وهربت أنت وأسرتك قبل تدمير البلد، كما فعلت شخصيًا.

ردّ الزعيم: نحن لم نُخاطر بما نملك، فأنا وأسرتي بخير كما ثروتي. سنعود سويًا بعد هُدوء العاصفة ونتقاسم البلد في ظل اتفاقية جديدة تحكُمها نتائج الانفجار.

محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا