سباق الغيوم

    أرقبُ تغيُّر الفصول عاماً بعد عامٍ، حتى مللت ترتيبها السّقيم، لا ليس سقيماً بالمعنى المعروف، بل ضجر يصم آذانَ السّكون. كم هو كئيب ورتيب توالي الفصول على المنوال نفسه عاماً بعد عامٍ. تخبو الإثارة، وتموت اللهفة عند محطّة الانتظار. كلّ الفصول تأتي كموعد القطار في المحطّة نفسها. ما عاد عشاق الفصول يكترثون، فالقادم قادم من دون هدايا تُذكر، من دون تبرُّج أو زينة. في محطة الفصول لا تصفِّق الأيدي للقادم الجديد، ولا تودِّع المسافرين… ضجرٌ، بَشَمٌ، سأمٌ
يعلم الكل أنه في نهاية الصيف تخبو رائحة الزهر، وتلفح الشمس لحاء الأشجار فتصبح جذورها أشد دكانة، تصاب العيون ببؤس الألوان الشاحبة وتتلاشى بهجة الكسل. الكل يصلي من أجل التغيير، ينتظر فصلاً جديداً، صاغراً خلف سطوة الطبيعة، التي لا تعترف بالديمقراطية. فهي سترسل الخريف دون غيره ليقض مضاجع الصيف وينظف ما خلّفه بنو البشر كهناً وإسرافاً غير عابئة برسائل الرحمة التي تتوسل نمطاً جديداً من الفصول. لذلك فالصيف يقاوم ويقاوم تحت رغبة جماهيره الكسالى خوفاً من تراجع شعبيته كي لا يخسر لقب ملك الفصول. بل هنالك من يطالب بتجاوز الخريف إلى فصل الشتاء أو الربيع ولو مرة واحدة
شخصياً أريد أن أرى فصل الشتاء متجاوزاً فصل الخريف. أريد الارتواء من مزن السماء، ليس شراباً طهوراً فحسب، بل أريد لبصري أن يلامس الغيوم، أن يرى السماء فأمسك بزمام غيمة قريبة وأقودها كما كنت أقود الحمار في ضيعتي، عندما كنت طفلاً. ليت غيري يفهم لذّة سباق الحمير، خطر الوقوع كبير، وسباق الريح شيء مثير، خاصة عندما تتيه في الغابة وتفقد حواسك خرائط البشر حتى تخشى الضياع وأنت تأمله. ودائماً ما تتعاون مع الحمار لترسما طريق عودة يضمن العودة قبل الغروب. ذاك الشعور الغريب الذي ينتابك وأنت تسابق القمر للوصول إلى درب العين قبل ساعة الغروب. اليوم أحلم بالوصول ممتطياً ظهر ديمة كثيفة. ذاك الطفل في داخلي لم يخسر سباق حميرٍ قط ولن يخسر سباق الغيوم. لذلك أحلم بغيمة شتاء كثيفة داكنة تحمل جسداً اضطررت على المكوث فيه. لا أحتاج إلى رِكاب ورسن كي أروض الغيم، ولا أحتاج دليلاً إلى درب التبانة، فكلنا في النهاية سنصعده بطريقة أو بأخرى. لذلك لا بد من وجود برنامج أزلي يدرك معارج السماء.
كيف يدركها ميت ولا يدركها حي؟
أصرّ في صلاتي ونسكي وابتهالي أن تتجاوز السماء فصل الخريف هذا العام. ففصل الشتاء أنيق يجبر كل الناس على الاحتشام والوقار. أنيق بمعاطفه، بخوَذ الصوف، بل بألوانه المبللة برذاذ المطر الصافي متناثراً من مزن تكتنزها السماء. ما أرقّ الوجود شتاء عندما يزدان بنفناف ساحر خلَّاب يعيد الصفاء بهجة وسروراً. كم أتصوَّر نفسي ممسكاً بقفة الثلج فوق غيمتي أغترف منها نفنافاً وأنثره على معطف حبيبتي الصوفي. بل كم أحلم بصنع باقات زاهرة بيضاء أزيِّن بها بيوت الفقراء، بعد أن أرشها بماء رجراج يبعث على السرور بينما أعزف مع الريح لحن الهفيف زفزفة من ناي الرياح السهوج
إذا لم يُستَجب دعائي سأعترض على استقبال فصل الخريف، ولن أستقبله في كوخي الصغير. أعلم بأنه قاسٍ، بل قد يتسم باللؤم أحياناً، وقد يخلع باب كوخي، لكنني سأقف في وجهه صارخاً “لا أحبك… لا أحبك” نعم لن يكترث وإذا ما فعل سأهدده بأن صديقي فصل الشتاء لن يتركني وحيداً، وقد أصوم احتجاجاً. وإذا ما فشلت سأتوارى في الغابة مع الدببة بياتاً خريفياً
لا أفهم لماذا يسابق الخريف الشتاء، بل لماذا يخاف الشتاء الخريف؟ لماذا لا يلفحه قبل قدومه بعاصفة ثلجية تؤخره بضعة أشهر؟ ربما لأن فصل الخريف قاسٍ بطبعه يجبر الشتاء على القهقرى، ويجبر البشر على تقبله غصباً وكرهاً. بل قد تكون أوامر الأم الكبيرة طبيعة
ربما كان فصل الخريف ابن الطبيعة المدلل فتتجاهل بقية الفصول. لربما كان ذلك نوعاً من العنصرية، وإن لم يكن كذلك فكيف لا تغير الترتيب احتراماً لمشاعر الفصول الثلاثة الأخرى. نعم، لو كانت عادلة لغيَّرت ترتيبها حسب اجتهادها ومحبة الناس لها. لكنها متسلطة متجبرة تفرض على الناس استقبال الخريف، بل تجبرهم أحياناً على إقامة حفل استقبال يسكر فيه الناس من نبيذ يسرقونه من جنى الصيف الذي كدّ جاهداً على إنضاج العنب أصفرَ وأحمرَ وأبيضَ. مسكين فصل الصيف الذي يُسرق جناه ويطرد شر طردة تحت وطأة زوابع الخريف الذي يحطم كل ما بناه الصيف
ألا تكترث هذه الأم لمشاعر الفصول الباقية؟ ألا يهمها أن تتوِّج فصلاً جميلاً بعد صخب الصيف؟ نعم في رأيي أن يأتي فصل الشتاء الحاني بأمطاره بعد الصيف الماجن، لا أن يأتي الخريف فيقسو ويضرب ويكسر غير آبه بما يحدثه من مآسٍ للبشر والطير والشجر. تلك الطيور الصغيرة المسكينة تترك ممالكها وممتلكاتها، بل أعشاشها التي بنتها طيلة الربيع والصيف لترحل متكبدة عناء السفر وارتفاع الأسعار وتقدِّم القرابين بعضاً من فلذات أكبادها للصيادين كي يتركوا لبعضها الآخر ممراً آمناً
لا أدري ما الحكمة من ذلك ولا أهتم، ولكنني أؤمن بالديمقراطية وأصر على إجراء استفتاء شعبي تشرف عليه كل الغيوم والنجوم وأصدقائي المجانين. بل قد أهرب مع فصل الشتاء عندما يأتي وأخرج من بياتي إلى أحضانه متوسلاً أن أرحل معه. سأرتحل على ظهر غيمة شتائية تحفل بجبال الثلج وتلمع بلون الشمس بياضاً إلى حيث يرحل. سأساعده في ري الأرض وملئ خزانات المياه الجوفية… سأفتح حنفيات الماء على من أهملهم البشر في العشوائيات… وسأقدِّم شراب الثلج دافئاً بأكواب المحبة لكل المشرّدين، كي أقنع ملكة الطبيعة بأن المحبة التي يحملها فصل الشتاء خير من قسوة الخريف.

من مجموعتي القصصية “العميان الجدد” – عن دار النهضة العربية

اترك تعليقًا