آلام المهاجر الكامنة

آلام المهاجر الكامنة، المحاضرة التي ألقيتها في الحلقة الثانية من ندوة “الأسرة العربية وتحديات الاغتراب” والتي أقامها الاتحاد العالمي للمثقفين العرب بالتعاون مع تجمع منتدانا الثقافي وصالون هتاف الشعر الثقافي والاتحاد العربي للثقافة  بتاريخ 17 -10-2021

إنه عصر العولمة، عصر انكماش المسافات وسرعة تلاقح الحضارات كنواة لحضارة عالمية قد تتبلور بعد قرن من الزمن. كذلك هو عصر الهجرات القسرية والاختيارية وتفتيت المجتمعات التي تعاني من طغاة يحكمونها بالحديد والنار، غير عابئين بالجهل والتزمت الديني وعنصرية تجتاح كل أطياف الحياة في عالم من الفساد الممنهج. الظلم بأشكاله هو ما يجعل الوطن طاردًا لأبنائه فالفقر وحده ليس مدعاة للهجرة طالما أن العدل والمساواة هما أساس الملك.

الحقيقة المؤلمة أن معظم الدول العربية والعالم الثالث أضحت بلادًا طاردة لمواطنيها الذين لا ينعمون بالعدل والمساواة إضافة إلى العنصرية بأنواعها حيث يعيشون أشباه عبيد لطبقة فاسدة انتهازية لا تعرف حلالا إلا نهبته أو حرامًا إلا اقترفته. هذه الأنظمة سببت هجرات قسرية متتالية، متعاقبة لملايين المواطنين إمّا للحفاظ على انفاس الحياة والفرار بصغارهم لينجوا من قتل أو عبودية أو الهرب عندما تشهد البلاد تطاحن أهل السلطة للفوز بأكبر قدر من دماء وجثث الطرف الآخر. يهاجر أهل هذه الدول عن طريق السفارات التي يحجّون إليها مطئطئين رؤوسهم صاغرين أو يسعون إلى الفرار من أوطانهم عبر سبل التهريب تحت قيادة تجار الرقيق الأبيض. أصبحت معابد السفارات هي الأكثر قدسية بالنسبة لكثير من الشباب وملاذًا لجميع الأحرار من كل الأطياف الفكرية والعمرية.

تختلف بداية الطريق بين اللاجئ والمهاجر لكن عند الوصول إلى منافذ دخول البلد المقصود أو إلى حيث اقتيد اللاجئ يتساوى الجميع أمام القانون. تبدأ رحلة الإجراءات الرسمية التي تختلف بين بلد وآخر حتى نهايتها حيث يحصل معظم المهاجرين واللاجئين على تأشيرات دخول قد تختلف بصيغتها وفوائدها.

يواجه المهاجر رحلة الاستيطان والاندماج في الوطن الجديد أو البديل أو المنقذ بخوف وريبة حيث يواجه المهاجر صعوبات كثيرة قد تأخذ سنوات، بل قد تستهلك عمرًا كاملًا حتى تتم مرحلة الاندماج، إن حصلت. لن أعرج على كل الصعوبات التي لا تحصى، فذلك يحتاج إلى دراسات عميقة مستفيضة وقوى بشرية متعددة. لقد كتب كثيرون عن مشاكل الغربة ومعاناة المهاجرين، ولم يتطرقوا إلى أكثر النقاط عمقًا في ذات المهاجر التي زامنتها مع كثيرين من بلاد العالم الثالث خلال غربة تجاوزت الأربعة عقود. عادة ما يتم التركيز على الأشياء المادية واللوجستية فيما الهواجس الفكرية والنفسية التي تسبب قلق الوجدان وتلف الصحة النفسية من دون وجود العناية اللازمة في اهمال غير مبرّر.

مشهد بسيط قد يبدو ساخرًا لكنه حقيقي اتخذه كمدخل لهذا النص

كنت في زيارة لأبي محمد وزوجه اللذين يقيمان في ولاية ماساتشوستس مع أولادهم وبناتهم البالغين منذ عقد من الزمن بعدما استقدمهم الابن البكر الذي هاجر للدراسة ولم يعد إلى وطنه إلا مرة واحدة ليتزوج من فتاة اختارها من بين صور عديدة أرسلتها والدته. خلال جلستنا شكت أم محمد كما في كل زيارة من مشاكل اللحمة الحلال ومدى معاناتهم في الحصول عليها. اقترحت عليهم بعض محلات الجزارة في مدينة بوسطن حيث تتوفر اللحمة الحلال فرفض أبو محمد قائلًا: هذه المحلات تبيع لحم الخنزير مما يثير الشبهة حول طهارة لحومها. وقبل أن أجيب خرج ابنه محمد مع صبية جميلة، ألقى السلام وغادر مع السيدة الجميلة. سألت أبو محمد: هل تزوج محمد؟ قال: لا، هذه صاحبته باتت عنده هذه الليلة.

بعد قليل جاءت ابنة أبو محمد إلى المنزل مرتدية سروالًا قصيرًا جدًا “شورت” وقميص مغر. بعد أن ألقت سلامها علينا، سارعت الأم لتقول وكأنها تدافع عن شيء ما: سلمى تحب أن تذهب إلى البحر صباحًا وهي في لباس البحر.

شعرت بشيء غير طبيعي فقلت بصورة تلقائية: أنصحكما بالاهتمام بأولادكما أكثر من اللحمة الحلال، فإذا صلح أمر أولادكم لا يهم حتى أكل الخنزير.

بدأت بهذه القصة الحقيقية لأن همّ معظم العرب المسلمين بصورة عامة في بلاد الغرب لا يتجاوز أشياء معدودة نتيجتها بديهية “اللحمة الحلال وحرمة الخنزير كما الفوائد البنكية وعذرية الفتاة فقط لأنهم لا يكترثون لعذرية الشاب”. لا ألوم المهاجر على حاله هذه لأن مشاكله أعمق من أن يواجهها منفردًا، خاصّة تلك التي حملها من وطنه برواسبها وآلامها فيسكن إلى نفسه كابتًا مشاكله التي يظنها فردية فيخجل منها. لذلك يلجأ إلى تحصين نفسه بالتمسك بما يحصّن به معتقده وايمانه كسلاح يواجه به ما يُخفي من متاعب نفسية يخجل من البوح بها.  لو محصنا في الموضوع سنجد أن كل مسلم على وجه الأرض يعرف أحكام اللحمة الحلال وحرمة الخنزير. كذلك هناك فتاوٍ واضحة حول الحسابات البنكية، فمن لا يريد فائدة يستطيع رفضها من البنك الذي سيتقبل الوضع بالترحاب. مع بساطة حلول هذين الموضوعين ما زال معظم المسلمين يقضون عمرهم في جدال عقيم بين هذه الفتوى وتلك. أما موضوع العذرية والجنس فسأتطرق إليه لاحقًا في هذه المقالة.

دائمًا ما يتم الحديث عن الصدمات السلبية التي تواجه المهاجر من اختلاف اللغة والمعتقد كما العادات والتقاليد. هذه الصدمات يدركها معظم المهاجرين ولو بدرجات متفاوتة. من البديهي أن يكون لدى المهاجر استعداد نفسي لمواجهة الموقف أو تقبله الفعلي بعد تقبله المعنوي عند اتخاذ قرار الهجرة، او أنه سيتداولها مع زملائه في مسيرة اللجوء المقيتة. لكن هناك عدد كبير من الصدمات السعيدة، أو المفترض على أنها تجلب السعادة. هذه الصدمات هي السبب الأساس في مشاكل المهاجر المزمنة التي تكبر وتكبر كدرنة سرطانية لا تفنى إلا بموت صاحبها لأن الأطباء عجزوا عن كشفها. إن الحالة النفسية الموبوءة لأي إنسان تحجب عنه الرؤية الصحيحة لاتخاذ القرارات السليمة، لذلك يبقى المهاجر في لجة الضياع. الصدمات كثيرة أخترت أهمها كما أرى:

أولًا: صدمة النظام المتّبع الذي يتعارض مع نقيضه في الوطن الأم.

تعوّد المهاجر منذ ولادته على فوضى عارمة تشمل سبل الحياة جميعها حتى أصبحت الفوضى وانعدام تطبيق القانون هي المرجع لتصرفاته. يُصاب المهاجر فور وصوله بصدمة حضارية تنسف هذه الحقيقة منذ وصوله. فالوقوف بالطوابير بحزم والتزام الهدوء مع عدم الاكتراث للصفة الشخصية يكوِّنان صدمة كبيرة خاصة لمن تعوّد على تسيير أموره في بلده من خلال المعارف والمحسوبيات والرشاوي. وكلما طال به المكوث كلما أذهله تطبيق النظام أكثر من النظام نفسه دون أن يتبناه ليصبح جزءا منه. إذ أنه يعود إلى سيرته الأولى ولو بعد سنوات عند زيارة بلده الأم أو أي من الدول المشابهة.

ثانيًا:

صدمة احترام المهاجر كإنسان بعد حياة طويلة من مذّلة حقيقية لا يستطيع المهاجر تقبلها لأنها تتنافى مع نظرته وثقته بأي مسؤول حكومي.

من ممارسات الأنظمة في بلادنا الحطّ من قدر المواطن وتسفيهه لحساب شخصية أهمّ أو قامة ذات مركز تؤدي معظم الأحيان لتحطيم واذلال المواطن. الاحترام الذي يجده كإنسان حيث هاجر يصيبه بتوتر دائم إذ لا يصدق أنه المقصود في الاحترام. بل يعتقد أن هذا الاحترام على منوال مراكز القوى في بلادنا التي تكون في منتهى الرقّة خلال التحقيق لتوقع بالمواطن وتلفق له تهمًا تنسف حياته تمامًا. تقبُّل هذا الاحترام في العقل الباطن للمهاجر يحتاج إلى معالجة طويلة حتى يطمئن قلبه.

ثالثًا: الشفافية بالنسبة للمهاجر عري كامل أمام الدولة والمجتمع.

الشفافية التي يجدها المهاجر في البلد المضيف على ما له وعليه في كل المجالات تجعله يشعر كالعاري الذي خسر كل ملابسه على حين غرّة. لم يتعود المهاجر من بلدان العالم الثالث خاصة العربية على الصدق والشفافية من قبل المسؤولين ولم يتعود على ممارستهما بما له وبما عليه. فأي معلومة عن المسؤول خاصة فيما يتعلق بأدائه الوظيفي يُعد في الغرب جزء من الشفافية تعتبر في بلداننا اختراقًا أمنيًا لكيان المسؤول وتشهيرًا به يستدعي تدخل الأمن المركزي لإيقاف أي معلومة عنه أو محاسبته رغم أن وظيفته تستدعي الشفافية الكاملة لإثبات نزاهته. كما أن شفافية المواطن التي تنتزع منه انتزاعًا تحت أنواع التعذيب تستخدم ضد وضد أسرته دون أدنى رادع أخلاقي أو انساني.

رابعًا:

سهولة حصوله على حقوقه الاجتماعية والمادية وعدم اذلاله للحصول على مقدّرات حياته تنعش فيه ملكة الكسل التي تساند خوفه من الاندماج في المجتمع خوف الفشل. أعرف كثيرين من المهاجرين في عدد من الدول التي هاجروا إليها لم يعملوا يومًا واحدًا لسنوات طوال معتمدين على المساعدات المالية الشهرية والصحية والتعليمية.

خامسًا: مرحلة البيات الطويل

 بعد استقرار المهاجر والقدرة على العيش والتأقلم ظاهريًا يعيش كمعظم المهاجرين في قوقعة وجمود ضمن بيئة المهاجرين القدامى الذين يعلموه كيفية حلب بقرة البلد المضيف قدر الإمكان مع أقل جهد. طبعًا هناك شواذ لهذه القاعدة، فبعض المهاجرين خاصة أصحاب العلم والمعرفة والمهن لهم باع طويل في النجاح والتقدم الباهر من خلال ما يقدمونه للبلد المضيف ولأوطانهم. البيئة المنعزلة التي يختبئ بداخلها المهاجر ما هي إلا مخدرات تزيغ بصيرته عن ادراك حجم المسؤوليات المتوجبة عليه لبناء مستقبله ومستقبل أسرته. إن اجتماع أصحاب المأساة الواحدة يضخم حجمها إلى حد حجب حقيقة الحل. في هذه الظروف ستقل رغبة المهاجر في تعلم لغة جديدة أو عادات مختلفة فيقوم ببناء جدار ممانع لكل ما هو جديد وغير مألوف لديه طالما أن ستارة التواري تُبعده عنه نور الحقيقة. إن الخوف من المجهول وعدم الاطمئنان إضافة إلى حلم العودة ذات يوم إلى وطن طارد لمواطنيه سيكبح بالتأكيد عربة الانفتاح على الحياة والانطلاق في الوطن الجديد.

سادسًا: انفصام شخصية الأطفال نتيجة تضارب الرسائل التربوية التي يبثها الأهل والمجتمع والمدرسة.

في تلك البيئة المنسوخة عن بيئته في الوطن تبدأ مشاكل الأسرة مع وجود الأطفال الذين يتعلمون ثقافة الأهل التي تتضارب وتتنافى مع البيئة الجديدة المفترض بها وطنًا دائمًا جديدًا. هنا تبدأ بذرة الانفصام في الأطفال بالنمو، فالطفل يتصرف في المدرسة ما يتقبله المجتمع الجديد ويفعل الضد في منزله حتى لا يتعرض للضرب وكيل من الشتائم. تنضج بذرة الانفصام مع سن البلوغ ومحاولة الشاب أو الشابة اثبات شخصيتهم ومواطنيتهم الجديدة التي تحميهم بقوة القانون. إن إدراك الأطفال لتلك الحقيقة هو سلاح جبار يُسكت الوالدين فيصابون بكآبة مزمنة معظم الأحيان، وفي بعض الأحيان تجرّ الوالد لارتكاب جرائم قتل بحق أولاده خاصة الإناث (عاصرت بعض هذه الحوادث خلال وجودي في أميركا). تعلُّم الأطفال لغة بلد المهجر واكتساب العادات الجديدة على الأهل إضافة إلى اختلاف النظام والتقاليد الاجتماعية الجديدة يعتبرها الأهل خطرًا يهدد هويتهم وعمق انتمائهم الذي تمرد عليه الأطفال. من هنا تبدأ رحلة العذاب المضاعفة.

سابعًا: تفتيت الأسرة

بعد فشل الأهل في الهيمنة على أطفالهم تبدأ حملة دفاع وجدانية يقوم بها العقل الباطن فيركزون على حقن أطفالهم بقوانين مجتمعاتهم الأصلية التي هربوا منها لتحصينهم ضد المجتمع الجديد “المنحل، الكافر، الخليع” كما يصفونه، وتزداد وتيرة حقن التربية هذه مع اقتراب أي فتاة من سن البلوغ خوفًا على عذريتها في حين أنهم لا يكترثون لعذرية ابنهم فتكون التربية منحازة يستشفها الأطفال بسرعة. ومع الإصرار على حقن الأطفال بجُـرع النصائح المتتالية تحت حجة الحيطة والحذر يُصاب الأطفال بردّات فعل غير سليمة قد تنتهي بالتزمت الديني أو الجنوح إلى مسالك الإرهابيين أو درب الضياع في عالم المخدرات والجريمة. قال لي أحد الأصدقاء أن ابنه قال له: لو كانت مبادئ مجتمعك على هذا الرقي كما تقول لما تركت بلادك وجئت إلى هنا مهاجرًا.

ثامنًا: متلازمة المراهقة
تزداد علاقات الشباب بالمجتمع الذي يعيشونه في سني المراهقة مما يدخل عادات وتصرفات جديدة إلى كينونة الأبناء مما يؤثر على مسلّمات الأسرة. هذه التغيرات المستجدة تستفز حفيظة الأهل والبيئة اللصيقة لتُحدث عواصف من الجدل أكثر عمقًا وحساسية من أي مشكلة أخرى خاصة عندما يتعلق الأمر بتمرّد الفتيات. إن هاجس العذرية يجتاح المهاجر كون مفهوم العذرية وعلاقة المراهقين تختلف كليًا بين الشرق والغرب مما يؤدي إلى مشاكل عميقة ينتهي بعضها بالقتل. “بالمناسبة، عاصرت بعض هذه الجرائم”

علينا الاعتراف وبشكل واضح أن أطفالنا الذي ذهبوا إلى الغرب قبل سن البلوغ ومن ولدوا هناك هم ليسوا من وطننا. هم أبناء الأرض التي يعيشون عليها. فمن ولد لأبوين لبنانين، على سبيل المثال في كندا هو كندي وليس لبناني، وما الأهل إلا أوصياء عليهم. لا نستطيع توريث الهوية أو الانتماء لأنهما مسألتين شخصيتين تنموان مع تجارب الشخص في بيئته وتلاحمه مع الأرض والبيئة بمشاعره وتجاربه. الآباء المهاجرون أوصياء عليهم في وطنهم النهائي الذي اختاروه لهم لإنقاذهم من الظلم والجهل والفقر. واجب المهاجر أن يعطي أبناءه مناقب الإنسانية عامة، وأن يعطيه الثقة بالنفس وأن يساعده في تقبل وطنه الدائم، وأن يزوده بالمناعة من آفات المجتمع الجديد دون الحطّ من قيمة وكرامة وطن ابنه الجديد.

في النهاية أنصح بإعادة النظر في حال المهاجرين وأسباب فشل الأكثرية في بناء مستقبل زاهر. كما يمكن للمختصين الاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى من المهاجرين والتي نجحت في بناء صرح اجتماعي في أميركا كالايطاليين والأيرلنديين. العمل على مساعدة المهاجر لتقبل واحترام موطنه الجديد ومساعدته على بناء أولاده كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات في وطنهم الجديد من خلال تغذيتهم بقيم الإنسانية ونفحات من هويته الأصلية ليُبقي جذوة العلاقة بينهم وبين وطنهم الأصلي متوهجة العطاء.  

اترك تعليقًا