نعم أم لا… للهجرة

يولد الإنسان حياديًا، نقيًا، بلا اسم أو دين أو معرفة من أي نوع كان. يرتبط بالأهل كونهم أعطوه اسمًا وهويةً ورعاية، وأول من شهد تجاربه الأولى فجابه الحياة تحت ارشادهم ورعايتهم. وهذا ما شد أواصر العلاقة الأولى مع أسرته التي هي جذور إنسانيته.  لكنه تعلم الشم واللمس والتذوق وتمازج مع الطبيعة، جمادًا ومخلوقات على الأرض التي نشأ عليها. وهذا ما جعل أواصر مشاعره مرتبطة بالأرض التي نشأ عليها مهما كانت جميلة، أو قبيحة، غنية أم فقيرة. لذلك نجد أهل الصحراء مرتبطون بأرضهم كأهل الحضر والبلاد الخضراء. إذن العلاقة بين الإنسان والأرض هي علاقة رحم غير مرئي يحمل قدسية كرباط الأسرة الواحدة والأخوة الأشقاء.

ما الذي يجبر الإنسان أن يكون عاقًا بوطنه وأسرته؟ ما الذي يدفعه للهجرة؟ فالهجرة انفصال عن الأسرة والوطن في آن؟ أليس غريبًا أن يتخلى الإنسان عن وطنه باسم الهجرة؟ أليس غريبًا أن يعرض المواطن نفسه للتبني من وطن آخر ووطنه على قيد الحياة؟

هل وطننا على قيد الحياة؟

عندما يُصبح الوطن طاردًا لأبنائه، عنصري التعامل معهم، يدمغ جبين مواطنيه بأختام الطائفية ويوزعهم على الأسياد سلعًا يصبح المواطن عبدًا، يفقد حريته وشخصيته. تتقطع الأواصر ويشعر المواطن بالعبودية واليُتم. ومن كان عبدًا أو يتيمًا لا بد أن يسعى للحرية أو لإيجاد أرض ما تتبناه.

لكن هل الهجرة حلًا لمواجهة الوطن الطارد بطائفيته ومحاصصته وما ينتج عن ذلك من فاقة ومعاناة؟

من تجربة شخصية دامت أربعة عقود أستطيع أن أشارككم زبدة غربتي. غادرت بسبب الطائفية والمحاصصة وانعدام الفرص الواعدة لمن يتبنى فكرًا علمانيًا.

من ميزات الغربة في بلاد الغرب، وجود القانون الذي يحترم الإنسان، ويفتح الفرص للراغبين في العلم والعمل لتحقيق آمالهم وطموحاتهم. من يذهب في سن مبكرة ويرغب بالاندماج الكلي بقرار قطع صلة التواصل لن يواجه عقبات تذكر أكثر من أهل البلد الذي هاجر إليه. لكن من يذهب وهو ناضج لن يصبح جزءا من المجتمع الذي هو فيه مهما حاول لأن وطنه وذكرياته تمكنت من أصول عقله الباطن. وإن أراد أو قرر العودة إلى وطنه مهما كان ناجحًا علميًا وماديًا سيصطدم بالواقع المر. سيجد نفسه غريبًا في وطنه، لكنته قديمة، معالم البلد ليست كما تركها، الناس بأطيافهم ليسوا هم. هم تغيروا، حملوا ذكريات الحرب والمعاناة، بدلتهم الحياة. كذلك هو تغير، لكن في اتجاه مختلف كليًا عن أهل البلد. تمنطق بحضارة جديدة لا تمت بصلة للوطن توحي لمن يجالسه بأنه لا ينتمي إلى حيث يدّعي. سيبدأ رحلة جديدة في تكوين دائرة معارف جديدة ستصطدم بعقبات كثيرة أقلها الشعور بالغربة في وطنه. في لبنان عدم الانتماء السياسي أو الطائفي يخلق أعداء كثر. والحياد أو العلمانية لا تخلق أصدقاء، بل معارف. سيحتاج المهاجر العائد إلى وقت طويل ومعاناة حتى يستقر فكريًا وعاطفيًا. وهذا صعب جدًا في حقبات العمر المتأخرة.
في الخلاصة، من يريد أن يترك وطنه وأسرته ومعارفه إلى الأبد فليهاجر. أما من يخطط ليعود بعد أن تهدأ الأوضاع فأعتقد جازمًا أن بقاءه في عين العين العاصفة أكثر جدوى ومنفعة على المدى البعيد. سيعاني في حربه ضد الفساد بأنواعه حتى يسترد وطنيته وانسانيته ويحقق أحلامه بقوة العمل والنضال المشروع بأنواعه.

محمد إقبال حرب

“نشر هذا المقال في موقع حصاد الحبر ضمن ملف “نزيف الهجرة اللبنانية ينذر بوقوع كارثة اجتماعية: على موقع ألف لام
https://aleph-lam.com/2021/03/01/%d9%86%d8%b2%d9%8a%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%ac%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%8a%d9%86%d8%b0%d8%b1-%d8%a8%d9%88%d9%82%d9%88%d8%b9-%d9%83%d8%a7%d8%b1/?fbclid=IwAR0U_9-aR-X5l9duGTEo-AWs0z0Ktx2qUod9PPD4XA4_v0PDI8GkQV76dqQ

اترك تعليقًا