قراءة نقدية لمقال الروائي محمد اقبال حرب: الوارث والموروث: وعيّ وطقوس بقلم الدكتور علي حرب”الوارث والموروث” بين فلسفة الأدب وتأديب الفلسفة
د. علي حرب
قبل أن ندخل معكم حلبة الدكتور حرب لنشهد فصلًا شائقًا من فصول مواجهته مع عدو أبدي “ما من صداقنه بدُ”، أودّ أن أعرّج على ما بعض تضمنه تراث لغتنا العربية من معاني ودرجات الخوف في معاجمه، وبعض ما ورد منه في تراثنا الديني، لندرك أبعاد ما يرمي إليه كاتبنا الصديق من حقيقة تصدّيه لهذه المسألة.بعض الخوف لغةً: الخوف والحذر والخشية والفزع والفرق والوجل والرعب والجزع والرهبة والهول والهلع والرهابوجاء في كتاب الله الكريم:”وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.” (سورة البقرة الآية 155).”لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون” )سورة المائدة الآية 68).”ويخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ” (سورة الرعد الآية 21).ونرى في المزامير صورة داود الذي إختبر أوقات الخوف مثلنا. ويعلن في مزمور 56: 3 إيمانه بهذه الكلمات: “فِي يَوْمِ خَوْفِي أَنَا عَلَيْكَ أَتَّكِلُ”. وما جاء في الوصايا من نواهٍ وتحذيرات لا يخرج أبدًا عن مضامين الخوف.
لن أستطرد طويلًا في البحث والتنقيب، فقد كفانا الكاتب مؤونة هذا الجهد بما عرضه من تداخل الخوف في ذراتنا في مشهد درامي مثير ومذهل، مجلّل ببهاء اللغة بيانًا وبديعا، ومتدثر برداء الفكر العلمي الرصين، مع جنوحه الواضح نحو فلسفة هادئة بسيطة بعيدة عن الإيغال في عالم الماورائيات والجدليات العصيّة غالبًا على الأذهان.أحببت أن أذكر بعض هذه الحقائق لكي ألقي مزيدًا من ضوء الأهمية على المسألة التي يطرحها الدكتور حرب في مقالة “الوارث والموروث” والتي أراني مدفوعًا لأضفي عليها سمة “فن فلسفة الأدب أو فن تأديب الفلسفة.”. قَدَر الكاتب الأمين، على نفسه وعلى قلمه، أن يكون، هو نفسه، حقلَ تجاربَ لكل الأزمنة والأمكنة. أن يفتح أشرعة سفنه في وجه الريح، ليخوض مغامرات شتى، قد تكون أحلاها أكثرَ مرارةً مما يتوقّع الآخرون.صديقنا، موضوع هذا اللقاء اليوم، الدكتور حرب، في رحلة “صيفه وشتائه” الشاقة التي أتحفنا بها “الوارث والموروث…وعي وطقوس”، لم يغب أبدًا عن هذا القدر الإبداعي الأدبي، “أأنا البشري الوحيد الذي يشعر وكأنه عاش على كوكب الأرض منذ آلاف السنين؟” وهذا دأبه ونهجه الذي وُسم به في مجمل كتاباته رواية وشعرًا وحكمة وتغريدات.كان مغامرًا جريئًا ومقتحمًا حين تقدّم ليشرّع صدرَه “للنصال، حتى وإن كان فؤادُه في غشاء من نِبال”، وبادر لطرح الأسئلة الصعبة التي لا يمكن للأديب أن يكون أديبًا إذا لم يقدم على طرحها واجتراح أجوبتها فكرًا وفلسفة.وما الأسئلة الصعبة إلا تلك التي ينتزعها الكاتب حرب من سجل الصندوق الأسود الحافظ للرؤى الملازمة لمسيرة حياتنا الطبيعية، لتحويلها إلى رموز تستوجب بين يدي فلسفته سجالات ومرافعات وتفكيك لعناصرها الأولية عن طريق التساؤلات المستهجنة والغريبة التي يستمطرها من عوالم قراءاته وثقافاته الواسعة ومعايشته لوقائع ترسبت في ذاكرته شرقًا وغربًا وفي كل اتجاه.في رحلته الفكرية الأدبية الجانحة نحو الفلسفة، عرض الدكتور حرب أمامنا شريطًا مصوّرًا عن محطات مؤلمة ومغرقة في المعاناة، جاذبة مؤثّرة، شدّتنا بما فاضت به من روعة التصوير والتفكير والتعبير، وبما أظهرته من قدرات التفكيك والرؤية والاستنتاج، ودعتنا إلى مرافقة الكاتب بشغف، حتى وهو يوزّع علينا كؤوس شرابه الحارق، فيما كان يراوغ ذلك الغازي العتيّ الذي اقتحم عليه مساماته وخلاياه، وجعله في حالة هي أقرب إلى الهلوسة والجنون.اهل جرّب أحدكم أن يُدخل يده مرّة في وكر الوسواس ليستفزّه ويثيرَ غضبَه ويمسكَ بذنبه ويسحبَه إلى ساحة العرض كاشفًا عن حقيقيته وكينونته؟هكذا فعل أديبُنا الدكتور حرب، حين أعدّ خيوله استعدادًا لمناورة فريدة اقتحم بها بوابات الذات الإنسانية المغلقة على كل المجاهل، لينزع عنها حجبها وأستارها، كذبها ورياءها وافتراءها، ويصوّرها على حقيقتها العارية. علمًا أننا جميعًا نعيش ونقتات على هذا المجهول المعروف الكامن في دواخلنا من غير أن نتساءل يومًا، كما تجرّأ د. حرب، عن سبب اقتحامه لنا أو التحكّم ببوصلة إبحارنا في هذه الحياة.الكاتب حرب، في مواجهته لزائر الليل الثقيل، كان مشبعًا حتى الجُمام بوطآت الماضي والحاضر وهواجس المستقبل، كما كان محاصرًا بجيش جحفل من الغزاة المدجّجين بأسلحة الوباء والموت والقهر والجوع والفساد والظلم والاستبداد.أزعم وقد أكاد أجزم، أن الروائي الطبيب، وفيما كان يلتقط صور العذابات التي يتعرّض لها العالم، لينقلها بريشة الفنّان الأديب المفكّر، كان يستعين بقاموسه الطبي وتجاربه المعملية، حتى يتمكّن من ابتكار السلاح المناسب “ليداوي به أوجاع الرأس عند أعدائه”.فكثافة الخلايا وارتدادات انفجارها والدخول في نوبات الجمود والشلل والبيات وسجلات الذاكرة المشفّرة ومجسّات الاستشعار وسيل الأنزيمات والأدرينالين، وغيرها كثير من عوارض العلّة كانت حاضرة على منضدة الطبيب.أوَليس الطبيب يسمى حكيمًا والحكيم فيلسوفًا في لغاتنا؟ألا يشتركون معًا في مواجهة العارض والحدث والتفكّر به وتحليله وتفكيكه وإخضاعه لأجهزة التصوير والاختبار، من أجل تحديد العلّة واقتراح العلاج دواءً أو حكمةً إأو معرفة أو تذوّقًا جماليًا شافيًا..كم كان الأديب حرب رائعًا في ابتكار حوارات حادّة وغريبة فيما بينه وبين ذاته المستولدة، وفيما بين طلاسم الزائر الغازي العنيد، وإشعال سجال يستحضر من خلاله مكنونات المعتقدات وطرق تسلّلها واحتلالها لذواتتنا:وجد الدكتور حرب نفسه، وهو في أعمق أعماق اللجة، محاصرًا بوحش كان يعلم تمامًا بكمونه في حنايا ضلوعه، لكنه لم يكن متوقّعًا للحظة التي يستفيق بها ويشنّ عليه هجومه. كان ييتنفس، كما سائر أبناء وطنه وجميع شعوب الأرض، هواء ملوّثًا بفيروس وباء الجائحة، ونتن الطغيان المستشري عند بعض الأنظمة السياسية الفاسدة وما ارتكبته من أهوال الظلم والجوع والقهر بحقّ شعوبها، لكنه لم يكن مدركًا لحلول الشعرة التي تقصم ظهر البعير تحت ثقل الأعباء والمعاناة المختزنة في حقل ذاته، ولمّا انفجر الكابوس في داخله اندلع الصراع واحتدمت المواجهة وتدفقت الأسئلة كالطوفان الجارف.بلى، كلنا أسرى الخوف والرهبة وترقّب المجهول.وكلنا مجبولون من هذه الطينة الأزلية التي نُفخت في أنوفنا مع أول مضغة من الثمرة المحرّمة حين هرول أبوانا للتستر بورقة التوت سترًا لعيوبهما وخَشية أن تكون موضع ارتهان لكرامتهما أمام الخالق.وكلنا محكومون لهذا القانون المطبّق علينا منذ امتلكنا نعمة الوعي والإدراك.وكلنا خاضعون لهذا الجبّار المسيطر على حركاتنا وسكناتنا مذ تلقينا الصفعة الاولى على مؤخرتنا لنشهق بالبكاء خوف الخروج من رحم الاطمئنان الدافئ المستسلم، بلا وعي، لإرادة خالق مدبّر.فكاتبنا هنا نستطيع أن نسجّل له انخراطه في ما يعرف بالأدب المداوي، أو العلاج بالأدب والدراما والموسيقى.لكنه كان سبّاقًا حقًا وبامتياز كبير، إذا عمد إلى مخاطبتنا بلغة أدبية رفيعة لائقة ببلاغتها تزدهي بأجمل الحلل والألوان والأشكال، سيّالة من خيال دافق وهاطلة من غيوم مشبعة بكل فنون اللفظ والعبارة والصورة البهية، فيتحوّل النص الفلسفي الفكري بين يديه إلى قطعة جمالية منسوجة بمزيج بديع من خيوط الإبداع الأدبي. وكان رائدًا في ابتكار “فنّ تأديب الفلسفة”.
يا صديقنا العزيز، إهراءات تراثنا الديني واللغوي والأدبي والتربوي والأخلاقي والاجتماعي والقانوني عامرة بمخزون الخوف حتى آخر العمر، وقد أفلحت في فتح أبوابها المغلقة لتتلقى لفحات الشمس قبل أن تتوحّش في صدورنا وتحيلَ أيامنا سوادًا.