قبل أن أنسى – الحلقة 3

كانت مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض عند بناءها في سبعينيات القرن الماضي صرحاً حضارياً مميزاً. وكانت المستشفى على لائحة الجولة السياحية للرؤساء والبعثات الديبلوماسية. وذات يوم كنت أجلس على مكتبي في العيادة، حيث كان المكتب ملاصقاً للممر الرئيسي سمعت ضوضاء جولة سياحية. لم أكترث كوني تعودت على ذلك وكوني مشغولاً بأشياء أهم. بعد لحظات شعرت بأن الموكب توقف أمام غرفتي، وشعرت بحركة تدور فوق رأسي. نظرت إلى أعلى الباب فوجدت رأساً أبيضاً يكلله شعر ذهبي. قال لي “هاي” وهو يحرك يده. وقفت وقلت : هاي رؤساء الوفد من وزراء وعسكر رفعوا أيدهم وهم يشيرون عليّ ألا أدخله الغرفة. وجدتها فرصه للانتقام منهم حيث كانوا يعطلون عملنا في كل جولة سياحية. قلت للرجل الطويل الذي لا أعرفه: تفضل لأريك العيادة. دخل ومد يده مصافحاً وهو يقول: غوستاف ملك السويد. وجدت نفسي أرد عليه تلقائياً: محمد إقبال حرب مندوب لبنان في هذه المستشفى. عرضت عليه أن آخذه في جولة عبر عيادة العيون التي كنت أعمل بها مساعداً للطبيب فأبدى قبولاً. كان رجلاً لطيفاً تحادثنا لمدة لا تقل عن الربع ساعة كلمني تكلمنا بها عن بلدينا وأطفالنا بتواضع ملكي مازال ضوعه يداعب ذكرياتي. طبعاً بعد ذلك جاءني ضابط كبير وشكرني على أريحيتي مع إنذار بالطرد لو حصل الأمر مرة أخرى. قليل من يعرف قصة بناء مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث “هكذا كان الاسم الرسمي”. في إحدى مواكب الملك فيصل في أواخر الستينيات اعترضه سيدة بدوية وصرخت به لاعنة. أوقف الملك فيصل الموكب ونادى عليها سائلاً عن السبب. قالت: أنت قتلت ولدي. سألها الملك فيصل: كيف؟ قالت: كان ولدي مريضاً ويحتاج تحويلاً من وزارة الصحة ليتعالج خارج المملكة. مرت ستة أشهر ولم تنتهِ الأوراق ومات الولد. ولأنك ولي الأمر فأنت مسؤول أقسم الملك فيصل على بناء مستشفى حضاري حديث يكون بديلاً عن الخارج حتى لا يموت أحد منتظراً دوره للعلاج في الخارج. بنيت المستشفى على أحدث التقنيات العلمية والهندسة المميزة، فقد حوت المستشفى على عناصر العلم الحديث ، فقد كانت أول صرح في الشرق الأوسط يستخدم الكومبيوتر في عملياته اليومية حيث كان بها أحد ثلاث كومبيوترات في العالم. وقد افتخرت شركة البناء على أن حجارة المبنى الخارجية الصخرية قد تم ترتيبها بواسطة الكومبيوتر. وتم احضار الأطباء وطاقم التمريض من معظم بلاد العالم تحت إدارة شركة هوسبيتال كوربوريشن الأميركية. تم افتتاح المستشفى في شهر ابريل من سنة 1975 في عهد الملك خالد وبحضور الزعماء العرب الرئيس حافظ الأسد، الرئيس أنور السادات وغيرهما. وهذا يدل على أهمية هذا المشروع الحضاري الضخم الذي أصبح مدينة طبية بكل معنى الكلمة توفر رعاية صحية متخصصة في بيئة تعليمية وبحثية متكاملة. وهذا ما جعل مستشفى الملك فيصل مركزاً لعلم الأورام، زرع الأعضاء، جراحة القلب والأمراض الوراثية. كانت الفترة التي قضيتها في هذا الصرح تتزامن مع الطفرة الأولى وبداية تحول المملكة إلى الحداثة حيث تركت بصمات لا تفنى في ذاكرتي. هناك التقيت بعدد من الملوك والرؤساء وأغنى أغنياء العالم الذين عرفت بعضهم عن كثب ليس في السعودية فقط بل في أميركا أيضاً، كما التقيت بأناس لم يروا الحضارة أبداً إلا في زيارتهم الأولى لهذا الصرح للعلاج. هناك تعلمت أهم درسين في حياتي، الأول هو تقدير الظروف التي جعلتني أواكب التطور الحضاري الإنساني من فطرته التي خرجت براعمها من عمق الصحراء إلى أحدث أنواع التكنولوجيا. من أناس يعيشون بساطة الحياة كما فطروا عليها إلى زعماء يمسكون زمام السلطة والمال معاً. أناس تعلمت منهم أهم درس في الوجود: المال والمناصب في أي مكان في العالم مهما كثرا وكبرا لا يوفرا السعادة الداخلية وأن كل مسؤول في العالم مهما كبر يحتاج إلى صدر حنون ينزف عليه مشاكله وهمومه الصغيرة التي تراكمت عبر سنوات جبروته وأصبحت كابوساً يقض مضجعه. وإلى اللقاء في حلقة أخرى محمد إقبال حرب

2 comments

  1. كانت ايام ياسيدي والي الان هو من أهم المستشفيات وقد شرفت بزيارته وابتعاثي داخليا كتمريض سعودي وكان تخصص قسمي جراحة المخ والأعصاب وعلي الحظ وجود البرفسور المكسيسي وحضرت مع الطاقم احدي العمليات وقلت لنفسي لااستطيع اري شي لماامامي من أناس ولهم أجسام وكنت ابحث عن البروف لاراه واذا به خلفي طبعا لااعلم فقلت لنفسي هذا الطبيب او الفني مااقصر كيف يري واذا يحضرون له سلم مدرج ليصل الي الكرسي الظريف اني اقول له نحن اقصرهم فاابتسم وقال احضرو لها لتري قلت شكله مدير العمليات واتفاجا انه الجراح بعد العمليه خجلت ان اكلمه فقال كيف كان يومك فقلت جميل جدا قال مثلي….. من بعض المواقف 😊
    اسعدني طرحك جداا حقيقة الحياة هي السعاده الداخليه…. دمت بخير 💐

    إعجاب

    1. لقد رزت المستشفى بعد 30 عاماً فوجدته مركزاً عالمياً، ضخماً لكنه فقد خصوصيته المميزة التي عرفناها في البداية حيث كنت هناك تحضيراً للافتتاح. نحن السابقون وأنتم حاملي الراية. اشكرك على عمق قراءتك وعلى مشاركتي تجربتك التي تقر بأن الإنسان يقاس بعقله لا بحجمه.
      باقات شكر وتقدير سيدتي “اعذرني

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s