الزنديق

كمٌّ لا ينتهي من الكلم يزاحم درب البوح، لكن تعثر مخاض الحروف منعت ولادة الـجُمل حتى بولادة قيصرية. شحُّ المداد في سوق الحرية أضحى أزمة سبَّبت تصحُّر الوجدان في كيانات البشر الموبوءة بعدد من أمراض الفناء الإنساني. خارج صومعتي يشي بما لا تُحمد عقباه إذ تلوَّث بحر الأخلاق بأوبئة الفساد والخيانة، كما جفَّت روافد المناقب وكأنما وحش التخلف رابض على أصل النبع يغبُّ غديره ويبول في روافده.
كلام البوح لا يستوي إلا بقيثارة القمر، لكن القمر توارى في خزائن السلطان. لا يكتمل سطر الحروف على السجل الأزلي إلا بمداد المقل التي شحت كما شحت روافد الإنسانية في مآقي البشر. أصابت موجة الجفاف أبصار وبصائر البشر بعاصفة كراهية لفحتهم بحبيبات الانحطاط. آه من زمن الجفاف، من لحاء دوحة البشر التي نخرها سوس الحقد والكراهية حتى أضحت سوداء عقيمة فنهشت الإرضة أصل السجل.

مددت يدي متسولاً مداداً ليروي قلماً طال أمد عطشه، فيما العار يبشرني بالفضيحة بين أكابر القوم ورذلائهم، الذين طالما وصموني بنِعَم المعرفة. خجلت من نفسي واستدعيت من ينقب في جمجمتي ليجد لي سبيلاً أضخُّ منه ما فاض من فكر اعتقدته ذات يوم دليلاً على انسانيتي. اقترب بإزميل ومطرقة وشدّني إليه متفحصاً ثم ضحك وضحك حتى بانت نواجذه وقال: تباً لك، أتريد تلويث المدينة بوباء المعرفة؟ أنا لو أجريت إزميلي في أصل جمجمتك لتدفق من العلم ما يسمم المدينة بأسرها.
رثيت لحالي وطلبت منه مرهماَ من مداد شحيح علني أرتاح بعد البوح. ضحك مني هازئاً وقال: يا هذا ألا تعلم بأن السلطان قد حرَّم مواد الحرف والمداد بعدما وشى بهما العسس وبينَّوا خطرهما على عبيد المملكة. أتريدني أن أكون ضحية إفكك فيجلدني السلطان لتستُّري على موبوء يسعى لحرمان الأمة من أثر السلف وثروة الإيمان.

أسقط في يدي ما أحمله من حُجَّة حتى بتُّ حانوتي أفكاري، حاولت مداراة الأمر وتوجهت إلى مقبرة الحضارة باحثاً عن لحد متواضع لأفكاري وصاحبها. لكن الحقيقة وخزتني، ذكَرتني بأن الأفكار لا تموت ولا تنضب رغم مواراتها في كفن ولا تسكن السريرة حتى وإن أصابتها عدوى التردي والعفن.

قلت: ألسنا في عصر الانحدار؟ عصر الفسوق والانهيار. بل ألسنا في زمن الإدمان على لفائف الغدر والخيانة، والتفنن بالقتل والسحل والتعذيب بألوانه؟

قالت بخجل: ألا تعلم بأنك ولدت في عصر التردي، عصر يجتر من الماضي كراهيته وانتصاراته، حكامه لصوص وشعبه جبان؟

نظرت إليها متسائلاً مستغرباً عن ادراكها، فزادتني من الشعر بيتاً: كيف لا والشعب مازوخيٌ يقدس جلاديه، ويرتل صلاة الموت على أنغام السياط. أغرب عن وجهي يا هذا فما أنت إلا آفة صغيرة في زريبة السلطان الذي سيقتلعها ويحرقها عِبرة لكل من تسول له نفسه أن يتنفس حرفاً غير أبجدية عبوديته.

قررت التحدي والموت في سبيل انسانيتي وكينونة وجودي. لكن الوطن أصبح أوطاناً، وأضحت الإنسانية تتلوى في معدة أطفال جياع يلتحف رضيعهم دثار الجليد، أطفال تنفّسوا في زمن الدفء صقيعاً. جلت ببصيرتي أبحث عن بصيص أمل فارتد البصر خاسئاً بعدما فقئت عيناه. فقأت عينه اليمنى جموع المنافقين الذين يعبدون الله في السلطان، يحمدون ويسرقون، يكبِّرون ويمثلون بأجساد إخوان لهم في الإنسانية اصطادوهم في رحلة القتل والتشّفي. وفقئت عينه اليسرى عندما رأى ما لا يجدر به. شاهد سيد القصر يبكي الضحايا بحرارة كأس النبيذ الذي يتلوى دمعاً أحمراً من عين لا ترى على نبض قلب جففته حقارة الوجود.

اقتربت منه كتيبة الموت قائلة: لبيك سيدي.
أدار وجهه الناحية الأخرى وقال: تباً لكم تقتلون بعد الصلاة، ألم أشدد عليكم القتل قبل الصلاة حتى يغفر الله لي ولكم.

غمست ريشتي في مجرى نجيعي، وكتبت على صفحة فنائي تراتيل المجاعة فيما لحن السياط يواكب جوقة الأجساد الهزيلة في انشودة لحن الفناء.وضعني على المقصلة ملتحٍ توضأ بدم الذي قبلي وقال للسياف: ضمخ طهارتك بدم هذا الزنديق الذي يسعى لنشر رذيلة العلم في فضاء تخلفنا.

محمد إقبال حرب

2 comments

اترك تعليقًا