سمعت لحـناً

كان الزمان رتيباً …ساكناً كئيباً تغشاه غيمة رمادية يبرق من فجواتها شعاع خافت. لكنه بالكاد يصل إلى أكوام أرقي فيخفيها أو إلى ظلمة وجودي فينير لها بصيصا. بل أصابني هذيان عندما أرقني زفير أحزان يتساقط عليَّ من ديمة سمائي لأشْتَمّ مآسي العالم… امتنعت عن الشهيق خوف الفضيحة مع ذاتي وأمسكت أحشائي لائذا بالهرب لإنقاذ كبريائي. ركضت في المجهول إلى وجهة مستكينة. لمعت من السماء ضفيرة، كأنها كانت لأميرة عرفتها في حلم … قفزت إلى السماء مستنجداً بالضفيرة فسقطت مغشياً علي من فوهة وجودي إلى فضاء درب التبانة في هاوية سحيقة.
أخذتني الاقدار إلى مجرة أخرى ليس بها أقمار… ارتطمت بكوكب صغير يتلألأ ألحاناً… صغير جداً هذا الكوكب، بالكاد يتسع لها… تلك الشابة الساهبة في البعيد ترسم نجوما حول كوكبها اليافع. نَظَرَت ملياً في السماء فهزت رأسها كأنما وجدت سراً ثم اخذت حاجبها ووضعته هلالاً سيداً على فضاء لا يعرف الأقمار. هللت النجوم لجماله وغنت على لحن لا أسمعه. تماوجت فوق سماء كوكبها لتهمس شيئا ما. ارتعشت النجوم حول الهلال فهللت قافلة على درب التبانة ما زالت ترافق عربة الآلهة منذ الازل.
مع أن الكوكب ما كاد يتسع لنا سوياً لم تكترث للأمر حتى حينما داست أقدامها العارية على جسدي… لكنها ارتعدت فجأة، أصغت قليلا، جحظت عيناها وارتفع جفنها الوحيد متسائلاً عن شيء ما… لم أفهم
أصغت بقواها إلى أعماقي…وقالت بشر بلا لحن… أين لحنك؟ هل أضعته أم بعته… أنتم البشر تبيعون أي شيء حتى ألحان وجودكم…. لا لن أعطيك لحناً آخر
أنا: لحني… ما كان لي لحن ولا عشقت النغم… بل لم أطلب منك لحناً.
هي : بل كان لك…
أنا : كيف … كيف؟
هي: ألم تسقط إلي من باب حزين من سقف السماء البعيدة؟
أنا: أجل
هي: لا يسقط من هناك إلا من قطع وتره
أنا: وتري… يا إلهي أكان لي وتر وانقطع؟ من أنت أخبريني؟
هي: أنا حارسة القيثارة أنا سيدة الالحان … أنا من يربط أوتار الكائنات بقيثارة الوجود
أنا: أية أوتار وأين القيثارة ؟
هي: لكل مخلوق وتر يعزف عليه وجوده من سعادة وشجن فيندمج مع سيمفونية الوجود ويرسم لوحة أجمل لكون لا يكتمل أبداً.
صمتت قليلاً ثم تابعت: ولا ينقطع وتر إلا من خوف وخيانة.
أنا مذعوراً: خوف وخيانة… لا لست خائناً … بل خائف… خائف من السعادة التي لا أعرف وخائف من الغيمة الرمادية التي ما زالت تزداد اسودادا.
هي: أعرف بأنك لست خائنا فالخونة لا يسقطون من باب الحزن بل من باب الشيطان الذي قايضهم الجماد الزائل بلحن خالد كيما يبعثر سيمفونية البقاء. لكنك قد تكون ممن لا يعبأون بالحياة فلا يغوص في ثناياه، أنت ممن لا يحرك أوتاره فتأخذه الرتابة لينزوي كئيباً بل صدءاً بالكاد يدرك لحن الوجود. لكنني على ثقة بأن لحنك جميل.
أنا: يا سيدة الألحان من أكون حتى يكون لي نغم…من أنا حتى يطرب لي شيء ما؟
هي: أنت أنا بل أنت الوجود يا هذا… ما دمت موجوداً فأنت الوجود اصنع اللحن الذي تريد في هذا العالم عالمك… عندما ترحل يرحل معك عالمك ويسقط وتر من قيثارة الوجود… لكن لحنك يبقى خالداً
أنا: لم أعرف لحناً لي منذ الأزل.

وضعت يدها على شفتي معلنة سكون الزمن في حضرتها… أخذت أناملها وأسبلت جفناي كأنما تواري زمنا مضى وقالت دون أن تنبس ببنت شفة اسمع لحن ذاتك …عد إلى أعماق وجودك، إلى عالم الذر حيث كان لك وتر إلهي يعيدك إلى حيث جئت… كيف ستعود إن أضعت لحنك؟
اسكن إلى ذاتك واسمع حفيف الثواني يداعب فصول العمر… ألا تسمع همس روحك إلى الخلايا قبل ألف ألف عام … هناك كتبت لحنك، رقَصْتَ عليه مع حورية لم ترها… انها هنا في أعماقك تنتظر لحن وجودك كي تبرق السماء وتمطر عليك غيثا من السماء. اسمع نبض قلبك وهمس الدماء في مجرى عروقك تنصَّت إلى همس روحك الى الخلايا… تلمَّس الكون ببشرتك واسمع صدى الوجود.
أغمضت عينيَّ دهرا قبل أن أصحو على ضفائر تناغش وجنتي تحت شمس ساطعة…

وسمعت لحناً

                                                                               محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s