جذور العنف: منابعه وتشعباته

محاضرتي التي ألقيتها في المؤتمر  الذي أقامه المنتدى الثقافي الأسترالي في سيدني- أوستراليا، بعنوان “ظاهرة العنف في المجتمعات متعددة الثقافات، تعريفها، أسبابها، تفاديها وطُرق معالجتها”. بتاريخ 27 تشرين الأول 2025

جذور العنف: منابعه وتشعباته.

العُنفُ مطواعُ الصِّفة والتعبير كاللدائن، يكبُر ويصغُر، يأتي مُرافقًا للطمة زوجٍ في صباح بهي، تنمُّرِ طلبةٍ بوجه طالبٍ جديد في مدرسة ما، أو جامعة، عُنفُ شرطي على مواطن وُلد بلون موصوم بالدونيَّة، أو رعبِ دولة تصطادُ الأطفال كنفخ الجلابيطِ التي يستمتعُ بها من تربَّى على كراهيَّة الحياة. خيرُ مثال على ذلك، لذّةُ التدمير التي مارسها المُستمعرون على الهنود الحُمر والبافالو من دون تفرقة،  تلك التي أُعيد إخراجُها بتقنيَّات جديدة في أفريقيا قاطبة وأوستراليا، وشرق آسيا وفلسطين  … هنود جُدد بألوانٍ مختلفة ومذاقات يكرههم عنيف أو إرهابي يدّعي الحضارة، آخر هذه البشاعات في غزّة حيث تمارس كل أنواع التصفيات العنصرية، مستهدفة كل حيّ في غزة فتزهق روحه تحت مرأى ومسمع العالم الذي يبتسم إلى القاتل مهنئًا على انعدام مشاعره وموت انسانيته الغارقة في ثمالة بحار الدماء الفلسطينية واللبنانية.

فلسفة العُنف ونتائجها الكونيَّة، نتاجٌ لعُمقٍ وجُذورٍ اجتماعية تُفرزُ وباءً طفيليًا ينهشُ المُجتمعات ويمتصُّ خيراتِها من خلال استراتيجيَّةٍ جديدةٍ تسمّى الإرهاب. لا يوجد مكانٌ أو بيئةٌ لم يتسلَّل إليها العُنف بوسيلة أو أخرى، بدءًا من المنزلِ والمدرسةِ والمعبد تحت إشراف خُبراءَ تدميرِ البشرية. حتى الديانات، كلّها، التي تُنادي بالرَّحمة يقوم مبدأها الأساسي على ترهيب المؤمنين المُنحرفين عن “التعاليم المقدّسة” التي روّج لها إرهابي “مقدّس”، كما تستخدمُ الدولُ عُنفَها القانوني لإصلاح عُنفٍ فردي أو جماعي.

ما هو هذا البُعبع الذي نسميه عُنفًا، يبثُّ رُعبًا، وينفُث إرهابا؟ يُمكنُنا تعريفُ العُنف على أنه استخدامُ القوَّةِ الجسديَّة أو النفسيَّة أو اللفظيَّة بشكل مؤذٍ أو تهديدي ضدّ فرد أو مجموعة بل مُجتمع ما، مسببًا أضرارًا جسديَّة وماديَّة ومعنويَّةً، بشكل مباشر أو غير مباشر.

أنواع العُنف:

1= العُنف الجسديّ.

2= العُنف اللَّفظيّ “شتمًا وتحقيرًا وتوبيخًا”

3= العُنف النفسيّ أو العاطفيّ كـ “التهديد، الإذلال، العَزل الاجتماعي”

      4  =  العُنف الاقتصاديّ، مثلًا “حرمانُ الشَّخصِ من المواردِ الماليَّةِ، سرقةُ مُمتلكاته أو    السَّيطرة عليها”

5= العُنف الجنسيّ “أي فعل جنسي قسري”.

6= العُنف الاجتماعيّ الذي يحدُث في اطارِ المُجتمع الأوسَع مثلًا:
      أ=  العُنف بين الجماعات على خلفيَّاتٍ طائفيَّةٍ أو نزاعات عِرقيَّة.

    ب=  العُنف المؤسَّسيّ، مثل التمييز بين الأفرادِ على أساس عِرقي أو ديني أو جندري.

    ج=  العُنف الرَّمزيّ، كالصور النمطيَّة، خطابات الكراهيَّة التي تهين فئات معينة، اجتماعيًا، سياسيًّا أو دينيًّا.

وهناك أمثلةٌ كثيرة من التنمُّر المدرسيّ أو العمليّ.

7=  العُنف الأُسَري الذي يشمُل الإساءةَ اللفظيَّةَ أو الجسديَّةَ للزوج، “ذكرًا أو أنثى”، العُنف ضدّ الأطفالِ، لفظيًّا أو ضربًا، كما العُنف ضدَّ كبار السنّ كالتجاهُل، والعُنف الجسدي والاستغلال المالي.

8=  العُنف الاستعماري، الأكثر شموليةً، والأطول عمرًا، والأكثر وحشية.

هذه النقاطُ وغيرها تستحقُّ دراساتٍ كاملةً مستفيضةً لأن كلًا منها جَذرٌ من جُذور العُنف، تُرفد منابعَه وتشعباتَه إلى كينونة البشر. العُنف، بحدّ ذاته، كما كان حالُه الخام، لم يكن أكثرَ من حالات تعبيريَّة تَوجَّب استخدامُها عندما لم تكن اللُّغةُ كافيةً للتعبير عن السَّخط والغضب الشديدين. بما أنَّ الحياة كانت صراعًا بدائيًا للبقاء، كان العُنف وسيلة بقاء. لكن استمرارَ العُنفِ وتطورَه أصبحَا من سمات الحياة، منذ أن بدأت الجماعاتُ تستوطنُ أمكنةً لها، على غرار المشاعِر الإنسانيَّةِ، من حُبٍّ وكراهيَّة، فرحٍ وحُزنٍ، إذ لم يتغيَّر أيٌّ منها بل تطوَّر في كلّ مُجتمع بطريقةٍ مُختلفةٍ، مع أنها لم تزل في مكان تصنيفها البدائي. لو درسنا، قدر المُستطاع، حصرَ الأسبابِ والنتائج التي ساهمت في إنعاش العُنف وانتشاره عبر العصور، لن نتوصَّل إلا إلى نتيجة واحدة مفادُها أن الخوفَ هو المحرّكُ الأساسُ لتفشّي العُنف، لأنه دائمًا ما يُعطي النتيجة المطلوبة بعيدًا عن صوابها أو عدمه. العنيف يُدركُ أنه لا يملِكُ مقادير القوَّة لإخضاع أيٍّ كان، لكن يُدركُ تمامًا أن ترويع “العدوّ”، فردًا أو جماعة أو دولة، هو زنادُ الخوفِ الذي يُسكتُ الشَّجاعة ويدمّرُ مُجتمع الضحيَّة. نُدرك أنَّ العُنفَ الممنهجَ في عصرنا الحالي اتّخذ منحى مرتفعًا، عبر إيديولوجيَّات خُطّط لها مُسبقًا، بدءًا من تشريع العُنف عبر الأديان التي أفتى كهنتُها بوجوب استخدامِه ضد الكفرة “أصحاب الديانات الأُخرى”، إلى التشريعات السياسيَّة التي قوننت استخدامَ العُنف لاستعمار واحتلال دولٍ ومناطق، قريبةً وبعيدة، لاستغلال ونهب ثرواتها وابقائها دولًا مستهلكةً تستنزفُ طاقاتِها وثرواتِها في التوافه.

في عودة إلى التاريخ، نرى أن العلاقةَ بين المعبد والقصر مُتلازمةٌ أبديَّةٌ، تشتدُّ وتَرتخي، لكنها لا تنقطع أبدًا. كان العُنفُ سلاحَهما الدائم، بدايةً من العُنف اللفظيّ، الذي يحمِلُ الصِّيغةَ المقدّسةَ، أحيانًا، لتنفيذ مآربَ أحدِهما، أو كلاهما. هذا العُنفُ المزدوجُ، عبر العُصور، أجَّج الخوفَ وسمح لمواطنيه الخائفين باستخدام العُنفِ المقدّسِ، والعُنفِ المُضمَّخِ بالوطنيَّةِ لقتل واحتقار أيٍّ من الشُّعوب التي قرّر ثنائي المعبد والقصر استهدافَها واستباحتَها، على غرار  ما فعل السومريُّون، والحضارات الهندية، كما اليونان والعرب والرومان وغيرهم على فترات متباعدة، وذلك وفق السجلّات القديمة، ولا ننسى فترة محاكِم التفتيش في أوروبا وجحافلِ الرُّعب المقدّسِ في الحُروب الصليبيَّة، وحُروب الإمبراطوريَّات الإسلاميَّة، والإمبراطوريَّة العُثمانيَّة، وصولًا إلى استرقاق الأفارقة تحت سِياطِ العُنفِ والاحتقارِ والعنصريَّة، ومن ثم تدميرِ اقتصادات كثيرة وسرقةِ ثروات كانت سببًا في النَّهضة الأوروبيَّة الحديثة. لكن العُنفَ الذي تملّك قلوبَ ومشاعرَ هذه الإمبراطوريات شحن أبناءها بلذّةِ سفكِ الدماء، والاعتزاز باحتقار بشري ما، إضافة إلى تجريم وتكفير أصحابِ الفكر إن سوّلت لهم نفسُهم الخروجَ عن خطِّ المعبدِ أو القصر أو كليهما. الغريبُ أن “العنيفَ” يتحلّى بذكاءٍ قاتِل ويُخطِّطُ لإحياء الترويعِ لدى من يُسيطرُ عليهم، في المنزلِ والحلقةِ الضيقةِ، كما الممالكِ والدول. على سبيل المثال، استمرت الدولةُ العثمانيَّةُ في شنّ حملات على دول البلقان كلّ عشر سنوات، كانت، خلالها، تقتلُ وتذبحُ “وتخوزقُ” النِّساءَ والرِّجالَ في السَّاحاتِ والشَّوارعِ العامّة لإذكاءِ شُعلةِ الخوفِ بعُنف وإرهاب شديدين. كذلك فعلت فرنسا في الجزائر في القرن الماضي، فاخترقت القرى وعلَّقت الأجسادَ شنقًا وخوزقة في برنامج عُنف رهيب يُسكتُ أيّ فكرةِ تحرُّر. نكتفي بهذين المثلين مع أن تاريخَ الرُّعبِ والإرهاب شاسعٌ واسعٌ، مخزٍ. كلّ هذا أوصلَ البشريَّة إلى الحربين العالميَّتين اللتين أسفرتا عن قتلِ أكثر من مئة مليون إنسان وتشريدِ ما تبقى. وبعد استراحةِ أكثرَ من نصف قرن، تمّ خلالها تطويرُ العُنفِ إلى سِلاحٍ ناعم أشدّ فتكًا، غير ذي أثر يُقتفى. عنفُ التكنولوجيا الموجهّةُ التي تسلَّلت إلى كلّ بيت وكلّ مكان، أليس عصرُ كوفيد -19 عصرَ عُنفٍ بامتياز؟ أليست سرقةُ معلوماتِ الشَّخص وتهديدُه بالفضائح عُنفًا وإرهابا؟ أليست حُروب الدرونز Drones التي يُسبِّبُ تحليقُها رُعبًا جماعيًّا، خاصّة في غزّة وأوكرانيا في أيامنا هذه كأنما هي لُعبةُ يانصيب  Lottary تُرعبُ الجميعَ، وتقتُل شخصًا واحدًا بصورة مُباشرة، بينما الأمراضُ النفسيَّةُ والعصبيةُ تقتلُ ما تبقَّى.

أصبح العُنفُ مُمنهجًا ومقبولًا إلى حدٍّ كبير، كما أصبحت السُّخريةُ شِعارًا. هذا لم يحدث اعتباطيًا، بل ضمن برنامج حدّده أسيادُ عصر التفاهة. تبدو أسبابُ قوننةِ العُنف غريبةً إذ أصبحت عُرفًا أكثر منها قانونًا.  لم يلجأ المشرّعُ الوغدُ إلى القانون أو فرض قوى جبّارة لنشر فلسفة العُنف، بل دخل عبر البيوت ناعمًا سلسًا. مع بداية الثمانينيات خرجت ألعابُ الفيديو بثيمة أساسيَّة قوامُها العُنفُ والقتلُ بطريقة تُحبّب الأطفالَ جدوى العُنف، والتعوُّد على رؤية الدماء، تلك التي كان أيُّ طفل، في طفولتي، يبكي لرؤية قطةٍ مجروحةٍ أو نقطةِ دم تسيل من أحد أترابه. الخطوة الأولى في تشريع العُنف، كانت قتلُ المشاعر وتقبّلُ سفكِ الدماء، بعد إسقاط قناع الإنسانيَّة عن براعمِ الوجود. أفلامُ الصورِ المُتحرِّكة التي عُرضت،  في تلك الفترة، تسخرُ من القِيَم الإنسانيَّة مثل برنامج “سيمبسون” في الغرب قبل الشرق، وفي مصر والدول العربية يتجلّى عصر”مسرحية مدرسة المشاغبين” التي مهّدت لإزالة هيبة المدرسة والمنزل، كخُطوة أولى لتقبّل العُنف بأنواعه. تمّ قتل المشاعر والقِيم مع الاستهانة بالقيَم والأخلاق والشرائع الدينيَّة تمهيدًا لما نرى نتائجه الآن حول العالم، بغربِه وشرقِه.

لن أغوص في ظاهرة العُنف في مُجتمعات متعدّدة الثقافات، لأن ذلك، برأيي،  هو نتيجةٌ حتميَّةٌ لاختلاف البناءِ الحضاري لكلِّ ثقافة. بما أنَّ الثقافات لم تتلاقح إلا عبر الحُروب  في معظم الأحيان، وبما أن صاحبَ الأرض التي تستقبل مُهاجرين جددًا، أو لاجئين تنظُر إلى  هؤلاء على أنهم أقلّ شأنًا كونهم تركوا بلادهم للاستقرار في جنّة بلادهم، ويرى القادمُ الجديدُ أنه ضحيةُ وطن طاردٍ ويستحقُّ الانتماء إلى مُجتمع “متسامح” من التخلّي عن قوميته ودينه، لكنه يواجَه بصدٍّ اجتماعي بعد قبول سياسي أو اقتصادي. كلا الطرفين لا يجهَر بالحقيقة لأسباب عدة، لكن يتمُّ البوحُ أمام أفراد الأُسرة التي يُترجمها أطفالُ البلد المضيف على أنها إجازةٌ “أسريةٌ” للتنمُّر ورفض القادِم الجديد، الذي تربّى، بدوره، على  الحفاظ على هويَّته والدِّفاع عنها. بين التنمر والدفاع ينساق البعضُ إلى جُنح وجرائم. في النهاية، مع رغبتي الجامحة الغوص في التفاصيل والإسهاب في أنواع  العُنف والكراهيَّة والإرهاب، لكن لا مجال لذلك في مقالةٍ واحدة، بل نحتاجُ إلى مُجلَّدات ومراكز أبحاث متخصصة. لا شكّ في أن جُذورَ الإرهابِ وأصولَه عميقةٌ متجذرةٌ، تنتشرُ في كلّ الأجناس والأعراق. مظلوم اليوم هو جزَّار الأمس، سيِّدُ اليوم هو ضحيَّةُ الأمس. لا أرى حلًا سحريًا لذلك إلا بتعليم الأطفال والنشء أن اللونَ والدِّينَ، الجمالَ والبشاعةَ، الذكاء والغباء، الصحيح والمعاق هي معطيات وراثيةٌ لا فضلَ لأحد فيها. كما أن الأديان والمُعتقداتِ ضرورات إنسانيَّة يحتاجها البشر لأمان النفس والرُّوح، من خلال الانتماء إلى السماء عبر وسيط اسمه دين. المساواة التامّة التي تضمن إنسانيَّةَ كلًّ واحد منّا، ضمانًا مقدّسًا، هي الإنجازُ الوحيد الذي يُمكن أن تعتدَّ به

د. محمّد إقبال حرب

اترك تعليقًا