لم أرَ صديقي “سَكران”، سَكرانا قطّ. لكنَّه لا ينطِق بما يُفهَم، وكأنَّه على صَواب فلا يتلعثمُ. يتكلَّمُ بالمَحظور وكأنَّه دُرٌّ منثور، رُغم غرابتِه وصُعوبة إصابتِه كما يرى أصحابُ الفِكر والبصيرة. لكن مع تراكُم الأيَّام عُقودًا، نجدُ أنَّ جُنونَه هو الصَّواب وما هذى به صائب سديد. يُلازم خمّارته دائمًا،لا يبيعُ فيها ولا يشتري مُسكِرًا. يستقبلُ نُدماءه في جَلساتٍ نادِرةٍ على مائدةِ غرائبِه، يُدعَون إليها دعوةَ مُشتاقٍ. يتفنَّنُ بضيافتِه فلا يُعِدُّ صِنفًا سبقَ طرحُه، فطبقُ الفلسفةِ غير طبقِ الشِّعر، وسَلطةُ الخيال غير سلطةِ الإبداع، شرابُ الجمال يُضاهي نبيذَ العِشق. دائمًا ما يُتحفُنا بـمُسكر مُختلف يقدِّمه في وَهم الكأس ولذّة المُنادمة، فكِركتُه تتأوَّه بتقطيرِ شرابِ الفِكر، تنضحُ بفلسفاتٍ غريبةٍ، يُقطّر عصيرَ حضارات استقاها من فاكِهة الشُّعوب، شرقًا وغربًا، في دِنّ الشكّ والمُساءلة، يُبخّر مكوّناتها ثلاثًا، كالعرَق المثلوث حتى يتقطَّرَ زُلالًا… مُسكِرًا.
قبل أعوامٍ، وفي جلستنا الأخيرةِ أعلن عن شرابٍ مُختلف يكون خاتمةَ سرِّه، رفض البوحَ باسمِه. فكرةٌ تختمرُ برأسِه، أطلَعنا عليها، كما لم يفعل من قبل، بتفاصيلَ زادتنا حيرةً وضياعًا. السرُّ في اطلاعنا على الأمر كان في طلبِه المُساعدة، بل أمرَنا باحضارِ الموادّ الأوليَّة. على كلٍّ منّا أن يمرَّ به مرّةً في الشَّهر، يضعَ رأسَه فوق خابيةٍ كبيرة. يأتي “سَكران” لينكُشَ ثِمارَ الأفكارِ بدقّةِ الخبيرِ حتى يجدَ ثمرةً ناضجةً، تلوحُ بقِطافها، فيقطُفها بحنانٍ ويرصُّها في خابيَته. رفض، بل منع أيًّا منّا سؤاله عن سرِّ جمعِه حتى تحينَ ساعةُ اكتمالِ نِصابِ خابيةِ جُنونِه. بعد عامٍ من اكتمال جمعِه، ونُضوب ثِمارنا، أعلَن عن يومِ الجَمعِ الموعود. لكنّ قبل أيَّام من الموعِد، أجّل عامًا كامِلًا لتخميرِ الخليطِ، وتعتيِقه بعد تقطيره في خابيةِ الجُنون.
مرَّ ما يربو على أعوامٍ عشرةٍ قبل أن يصحو “سَكران” ويدعونا إلى اللِّقاء المُنتظَر. جلسنا إلى خِوان سُفرتِه قبل أن يبدأ طُقوسَ المائدة. غلّقَ الأبوابَ، أطفأ الأنوارَ، شرّع النوافذ ليُشرحَ بدر وليد أُمستينا. أخذ يرصُّ أطباقَ ضيافته بدءًا من وجبتِه الأساسيًّة، مُخّ نيء لا ينتمي إلى مخلوقٍ أرضي، اصطادَه ذاتَ كابوسٍ. صُحون المازة توالت، حِكم مُجفّفة، شِعرٌ متبَّل بصلصةِ البلاغة، روايةٌ مُشلّعةٌ مع بُذور ومضاتٍ لاذِعة، أطباقُ فلسفةٍ لوَّنتها عقولٌ حيّها ميت وميّتها حيّ. وُضعت البهاراتُ في طساسيجَ مُزخرفةٍ، من شكٍّ، وريبةٍ ويقين. توزّعت أرغفةُ الإيمان والنّفاق في سلّتين من رُفات الراحلين.
بدأ اللِّقاء بأهازيجِ الحياة على وقع دُفوف الوداع في عالمٍ ليس له داعٍ. فاحت رائحةُ الشَّرابِ فورَ إزالة غِطاء قارورةِ الشَّراب المُنتظَر. رفعنا النَّخب بحماسِ السُكر المُنتظر. قال “سَكران”، قبل النَّخب: عليكُم الأمان، سأُخبرُكم عن اسم الشَّراب بعد أن تسقُطوا من وقارِكُم، وتتفتَّحَ سرائرُكم، وتُعرّى أرواحُكم من ملابسِكُم وأجسادِكُم. رفع الكأس وقال: نخبَ وداعكُم المحتوم. تصادمت الكؤوس فرنّت، بل سمِعنا قعقعةَ بعضِها. كرعنا كؤوسَ الخيال حتى ثمالةِ العقلِ والجسَدِ، رُغم رائحةِ الشَّراب النتنةِ، فتدافعنا ضاحكين، عابسين، يكِزّ بعضُنا البعض، ويشتُمه كما لم يحصل من قبل. مضيفُنا “سَكران” انفرد بقارورةٍ كاملة، يغبُّها غبًا حتى سقطَ جُثَّةً هامدةً. لم يكترِث أحدٌ، سرَقَنا الطَّربُ والنَّواحُ مُنسلخين عن عالمِنا حتّى نسيناه.
بينما يتلاشى ما على السُّفرة سمعنا حركةً بين أقدامنا، ارتعدنا وقال قائلُنا “إنه ثُعبان الجنّة” يبحث عن زميلتِه حوَّاء، فردَّ عليه “سَكران” من غِيابات الموت: بل آدم قادمٌ بزُبدة البلاء.
وقف “سَكران” مُترنّحًا على طبليَّة لم تأخذها جَدَّته في شَوار دفنِها. قال:
يا من تجترُّون ماضيًا اجترَّه أجدادُكم من مزابِل الذِّكرى، حضارات غبرت تدّعون بها شَراكة، وأنتم بالحضارة تُشركون، يا من تجترُّون حضارة الآخرين من مجارير بقاياهم. أُباركُ لي ولكُم شرابَ الطَّاغية. شرابٌ أعادَكم إلى حقيقتِكُم التي واريتموها تحت راياتِ العِلم والمعرفة والثقافة، فبانت عوراتُ أفكاركِم وأنتم صُمٌّ، بكمٌ، عُميٌ، لا تكترثون.
لو بال عليكُم الزَّمنُ لما فاحت رائحتكُم لأنَّكُم مبولةُ هذا الزَّمن، زُبدةُ العفَن. يا مَن تدّعون الثقافةَ والحضارةَ، وأنا مِنكُم. تُتاجِرون بأفكارِكُم تِجارةَ بائعِ الخُردة. نيامٌ، كسالى، أدعياءُ حضارةٍ غبرت ما كُنتم يومًا فيها طَرفًا، ولا كان أجدادُكم صُنَّاعَ فِكرٍ أو فلسفةٍ. اختلطت الأنسابُ، وتداخلَت الشُّعوبُ وجئتُم إلى هذه البلاد “طرش بحر[1]” هربًا من طاغيةٍ، أو عبيدًا حُكم عليهم بالتيه، فاجتمعت الحقارةُ والمذلّةُ في بلاد كانت عظيمةً قبل تسلُّلِكُم إليها حُفاةً، عُراةً جائعين حتى ثكِلَت بوجودكم. أذلَّكم الفُرس والإغريق، واستولى على مقاديرِكُم الرومان، واقتحم بلادَكم البدو تحت راية “فتوحات إسلاميَّة”، حكَموكم ببداوتهم تحت خَتمٍ مُقدّس، سلبوكم نِساءكم وأموالَكم، وحضارَتكُم عبوديَّة أزليَّة ما زلتُم فرحين بأساورها إلى اليوم، مرورًا بالعُثمانيين، قاتلي العِلم والمعرفة، والأوروبيّين ناهبي الثروات والحضارات، حتى ورّثنا الاستعمار الغربي إلى ربّ الدولار، راعي البقر الأميركي فقبَّلنا نِعاله طالبين الرَّحمة من عِقاب مُبين..
قاطعتُه قائلًا: يا سَكران، أراك صحوتَ اليوم بعدما أسرفتَ في الشَّراب، فأضعتَ بوصلةَ الذَّوقِ والكياسةِ حتى أهنتنا ونحن صفوةُ المُجتمع، مُفكِّرون ومُثقَّفون.
قال: تبًا لكُم فردًا فردًا… وأنا مِنكُم.
قال آخر: تنحَّ يا سَكران، يبدو أنَّ شَرابَك شرابُ عُهرٍ وليس شرابَ سُكرٍ.
سَكران: بل هو صفوةُ سريرتِكُم. السُّكر والعُهر توأمان، زِد عليهم الكُفر بعدَ إيمانٍ. لقد أدركتُ حقيقةَ الكذبةِ الكُبرى، منذ أمدٍ بعيدٍ، فهربتُ إلى وَحدتي، أُقطّرُ ثوابتَنا في إنبيقِ الحقيقةِ، أسرِقُ من اللِّيل عِطرَ السُّكون لأُعطِّرَ بقايا نتانة الكذِب والافتراء والإدِّعاء، أحرِقُ العنعنةَ لأُنقِّحَ التدليسَ من صحائفَ مدنَّسةٍ دسّها سُلطانٌ وعدو. أشربُ قطراتٍ باقيات قبل بزوغ الشَّمس على هسيسِ صوتِ المجرَّات فأنخلعُ من تاريخٍ مدسوسٍ، وعبوديَّةٍ مُتوارثةٍ لإرثٍ حُقِنتُ به كذبًا وبُهتانًا. عشتُ سَكرانًا، هاربًا من ميراثِ الثأرِ والعداوات، كذِب الحديثِ والتَّاريخِ والحِكاياتِ… كلُّ الحقائق مشوّهة، مدلّسة، تندّسُ في أنفاسِ الرَّضيع حتى خشِمت حاسَّةُ شمِّه فأحبَّ العفنَ. ومن نجا وتدبَّر طُعن في سرٍّ وجهرٍ بأمرِ وليّ مفروض، بألوانِه ومقامِه. نعم، علَّموكم الطَّعنَ من الخلف حتى أصبحتُم خونةً لا يؤمَّن ذكرٌ على جدَّته، ولا حرٌ على فكرِه، ولا مُواطنٌ على وطنه. نثروا عليكُم مقولات “النخوة والمُروءة، وحامي الديار، كرم وإيثار” كذبًا وافتراء حتى صارت عندكم تاجًا، جواهرُه زجاجٌ ملوّنٌ لا يشتريه عاقلٌ بدِرهمٍ صدئ. هدموا الفِكرَ فوق رؤوسكم، وأصبح سافِلُكم عاليكُم وما زِلتم بعُبوديَّتِكُم تفخرون. ها هُم، ها أنتم، تطعنون الأحرار من الأمام والخَلف بوقاحةٍ وانعدام الدِّين والشَّرف. أصبحت الخِيانةُ فخرًا وترفًا، يُمارسونها في تدمير البُلدان، يُشرِّعون القتل والذَّبح واغتصاب النِّساء تحت مُسمّى سبايا. يُسمّون نساءنا سبايا ورجالَنا كفرة وأنتم بهم تفرحون لعبادتِهم بني صِهيون.
صرخ أحدُنا: زِدنا حقارة يا مولاي. إصلِ النار بخشبِ عدنان وقحطان.
قال آخر: شرابُ الطَّاغية سِحرُ سهرتِنا… لا نحتاجُ إلى عواهرَ يُنادِمنَنا بهجةَ الحقيقة، فحقيقتُنا كما أوطانُنا تنضحُ عُهرًا وفُجورًا وتدليسًا.
صحا سَكران، صحوة الفِراق ونزف آخر ما أخفى من كلِم، تغشاه فرحةُ التخلُّص من الألم: ما أتعسَكُم يا قومُ، يا أعداءَ الصَّفا، وعديمي الوفا. ما أن جمعتُ ثمارَ أفكارِكُم، حتى بشّت أساريري إلى بريقها الذي يعكِسُ خُلاصةَ وفائكُم، عِلمِكم، كأنَّكم خُلاصةُ الفِكر ودُرّة العِلم والمعرفة. حلمتُ أن أَسقي البشرَ من شرابٍ ندَر حتى تنهضَ أمَّتُنا ونخرُجَ من غفوتِنا. لكن ما أن بدأتُ تقطيرَ الدُفعةِ الأولى حتى فاح منها ريحُ نتانة، تغشاه عفانة. ذُهلتُ من خطأ لا أعرفُه، ارتكبتُه. تأكَّدتُ من كلّ تفصيل في أوعيتي، وأعدتُ الكرَّة بالصّدمة القاتِلة نفسها. قطعتُ الثِّمارَ واحدة واحدة، نبشتُ داخلَها، تحرَّيتُ لُبّها حتى اكتشفتُ يسروعًا مُتخفيًا في عُمق كلّ نواة. تحملُ الثمارُ يسروعًا أو أكثر، يساريعُ حِقد وكراهيَّة وأنانيَّة، تلتفُّ في شرنقةٍ من قيحٍ شيطاني، تنتظرُ ظَرفًا مُلائمًا لتخرجَ، لتتحرّر وتنقضَّ على ما حولها مُعلنة ولادة إلهٍ وثن. نعم أنتم حضّانة تلك الآلهة المكبوتة. كلٌ منكم عالِمٌ جليل، حتى تسنحَ فُرصتُه الشيطانيَّة ليُعلن ولاية أُلوهيَّته.
قال صوت عميق: لله درّك… ما أحقرَنا وأحقرَك.
تابع سَكران: كلُّكم تُخفون كراهيَّتكُم وبؤسَ حقيقتِكم تحت ثِمار الفِكر والإبداعِ. توارثتُم كلّ هذا عبر قُرون العبوديَّة، تحت سِياط رجال الدّين المُقدَّسة وأسلحةِ الحاكِم المُسنَّنة بخوازيق متنقِّلة. ها قد جمعتُ صفوةَ أفكاركُم مقطّرًا، مدنّسًا بسريرتكم، تفوحُ منه رائحةُ النِّفاق والشِّقاق، وعرقُ الخيانةِ المتوارث تفاعَل وتمازج بلون القيح… ها قد شربتُم سُمومكم، وشربتُ معكم لأنني عِفتُ الحياة معكُم وبدونكم. فمن عاشر صفوةَ قوم نافقة… أدرك أن الفناءَ قداسةُ الأسرارِ.
ها أنتم تترنَّحون، تتدافعون، تبكون وتضحكون.. جنون، جنون جنون.
قلتُ: كفانا يا سَكران هذا الهذيان. كلّمنا عن العِشق والهِيام، عن فلسفةِ الوجود، عن شيء محمود.
ضحك سَكران، ترنح راقصًا وأخذ يُغني كلامًا مريبًا كأنما يُناجي غريبًا. ضحكنا، فرِحنا، صفَّقنا… وتعانقنا في شُذود بائن إلى أن رمى سَكران قارورةَ شرابه الفارغة وقال: أفهمتُم خُطبتي؟
قلنا بصوت واحد: “عن أي خُطبة تتكلَّم”؟
أيتها الكِلابُ الضَّالةُ، إذا لم تفهموا عِشقَ السَّكارى، وفلسفةَ المُجون ولم تحمدوني على جُهدي في زهقِ حياتِكُم، وفضحِ سريرتِكم، كيف ستفهمون حديثَ العُقلاء… أضربوا الدُّفوف وانصتوا مليًا.
أخذ منّا الصمتُ مأخذًا، وبصق سَكران في وجوهنا فرطّب جوَّنا الحار وبدأ كلامَه:
“شرابُ الطَّاغية”، سُمٌّ زُعاف تخافُه الأفاعي، ويرتعدُ منه الطُّغاة. ها قد شربتُموه، وسرى في خلاياكم مسرى الهواء والنَّجيع، فاعتقد كلٌّ منكم أنه المُنقذ المُنتظر ابن عذراء أو إله مُستتر سيحكُم العالم ألف عام وينشُرُ العدلَ بقتل أصحابه أولًا.
موتوا جميعًا، وأنا قبلكم حتى لا يبقى منّا حفّار قبور. ستلفحُكم الرِّيح، تُمزّق ملابسَكم، تفضحُ عوراتِكُم في مُجتمع العبيد والذئاب لأنكم جحدتُم عُلومكم ونورَ معرفتكم وأنتم أحياء. إرحلوا واترُكوا الأوطان زرائب صِهيون والبدوان. ستتسمّمُ الكلابُ والضواري حين تنهشُكم، ستتدنَّسُ الأرضُ التي تتحلّلون فيها وتتصحَّرُ البلادُ. لكن سيتحرّرُ العالمُ من أدعياء الثقافة، وسيحكُم العالمَ شياطينُ لا تتستَّرُ بقناعِ الوفاء والخيانة. إنه عصرُ الظَّلام المُقدّس، عصرُ الآلهة الجُدد، في كلّ معبد لهم وكيلٌ نجسٌ، خان ربّه السَّابق كما فعل من كان قبله تحت أرسوسة أو عمامة.
ها انتم ترحلون تِباعًا، نجِسين، مُدنَّسين، من عالمٍ لم أعرف به صحوةً قط… شرابُ الطَّاغية اللَّعين سلبني هذياني، أخذ مني لذَّةَ ضياعي فأدركتُ كمّ الشرّ الذي أحاطني. سأغادرُ مسمومًا عن طيب خاطِر قُربان معرفة حقيقتِكُم… احرقوا جُثتي لتتبخَّرَ حتى لا تُلامسَ بقاياي بقاياكُم. تبًا لكم ولمن يبقى حيًا ليُقيم علينا صلاةَ الحاضرِ الكاذب، والغائبِ الذي ما كان حاضرًا قطّ.
محمد إقبال حرب
[1]“طرش بحر” مُصطلح عُنصري يُطلق على المُهاجرين في غرب السعودية، سواء الذين أتوا إلى الحجّ أو غير ذلك.
One comment