“الرابع من آب في رواية “وخز الماضي

الرابع من آب في رواية “وخز الماضي” الحائزة على جائزة أوسكار العرب للرواية.

ما أن أتم حديثَه حتى تعالت أصواتُ بلبلةٍ صاخبة في المطعم. نظروا إلى الخارج حيث تتجه عيون روّاد المطعم وموظفيه. كانت السماء مُغطّاة بدخانٍ كثيف مصدره مرفأ بيروت. أخذَهم المنظر بخوف وريبة بينما ازداد عدد المتجمهرين في الخارج. الدخان يزداد كثافةً وأصواتُ الناس التي تسأل وتُحلّل تتزاحم في فضاء الحدث. خرجا ليسبرا الأمر ويناديا باسل الصغير الذي ضاعت صورته في الزِّحام. خرجا على أصوات مفرقعات صادرة من جهة مصدر الدخان ما أشاع في جوّهما رهبة وهلعًا. أين باسل؟ قالت ليلى. قال باسل: لا تخافي سأجُده، انتظري هنا.

سمعا لغوًا من بعض الغوغاء بعد تطاول ألسنة لهب من أصل الدخان: “إنه مخزن ألعاب نارية”، تابع آخر: لا تخافوا، سيّارات الإطفاء تتسارع إلى عنابر الحريق.

قالت ليلى: لندخل ونرى إن دخل باسل المطعم بحثًا عنّا.

دخلا سويًا حيث طاولتهما فلم يجداه، تراجعا ناحية البار، رأت ليلى باسل الصغير يدخل من الباب والناس تتدافع نحو الخارج. صرخت: باسل، نحن هنا. خطا باسل خطوة واحدة دفعه بعدها عصف عظيم زلزل المكان، بل المدينة بكاملها. غطّى الأُفقَ شكلُ فِطر بلون أبيض قاتل بينما هتك هدوءَ المدينة انفجار خلع الأرواح من أجسادها. انخلعت أرواحٌ وذهلت وجوه وتراصّ على الأجساد ما تناثر من حُطام وما أصابها من شوائب حادّة اخترقت بشرتهم فطالت أجهزة حياتهم فأسكتتها. صمت البعضُ إلى الأبد والبعض الآخر يئن والباحثون عن أحبابهم فقدوا بوصلة الاتجاهات، فكلّ شيء انحرف من مكانه، كأنما يوم القيامة قد أعلن التغيير الكامل لقوانين الطبيعة. سكَن البعضُ بلا روح، كُثر غابوا عن الوعي وزحف الباقي من دون وعي أملًا بالهرب. أصواتٌ تنادي على مُحبّيها في أنحاء الجمّيزة ومار مخايل – النهر ومنطقة المرفأ، بل بيروت الكبرى وما جاورها، ينادون، يصرخون من دون جدوى في خضمّ العبث الوجودي. لعنة الفِطر الذرّي أصابت مدينة الفرح بدمار لم يشهده الوطن حتى في ظل الاحتلال البشع المتوحّش. دفع الانفجار الجميع باتجاهات مُتضادة فتباعدوا بقوّة مذهلة فيما تعبث بأجسادهم غمامة الفناء.

ما أن استعاد باسل بعضَ وعيه، تماسك بقوّة وعِناد غير عابئ بجراحه. نهض من تحتِ الرُكام وقد غشّاه الغُبار والضباب فتوهّم بساطةَ جِراحه. صرَخ قدر استطاعته، ليلى، باسل. لا مجيب، فـأصوات المنادين على أحبابهم لا تُحصى وأنينُ الفناء يقتحم جدار الحياة. تحرّك قليلًا ونقّب بوجوه الضحايا. إنها ليلى، اقترب منها، ليلى، ليلى، لم تردّ. هزّها بقوّة، من دون إجابة. حاول تحريكَها فوجد شظيّة زجاج كبيرة مستقرّة في رقبتها وقد تجمّع دمُها بركة دماء. أسرع إلى الناحية الأُخرى حيث كان ابنه، لمح جسد منى وقد عفّرته الدماء كما الأجداث الأُخرى على بعضها وشَّحتها شظايا مختلفة بكوارث لم يُحسب لها حسابًا. نادى على منى فلم يحظَ بِردّ. لم يتوقّف ليستطلِع حالَ منى، بل تابع ناحية باسل الصغير مُحاولًا تجاوز الأجساد المُتراكمة، بعضُها جريح يئن وبعضُها في غيبوبة ومن حولها جرحى يبحثون على من كان يبتسم لهم لدقائق خلت. باسل هذا أنت، حبيبي، my son، I love you. إنهض، إنهض يا باسل. أمسكت به سيّدة مصابة وقالت: رحمه الله، أنظر إلى ما وقع عليه. لم يأبه. تكلّم وصرخ، هزّ ابنه بهستيريا. تناثرت الحقيقة أشلاء في ضوضاء وجود أصابته في الصميم فغاب عن الوعي.

غاب عن الوعي كما غابت بيروت عن وعيها ورُشدها، بل حاضرِها. غابت في عُمق التاريخ تسترجعُ الزلازلَ التي دمّرتها مرات عدّة عبر التاريخ. ففي المرفأ والجمّيزة والأشرفية ورأس بيروت ومعظم بيروت الكبرى ارتجت الأرضُ وتمايلت الأبنية نتيجةَ الانفجار الذي لم تُسجَّل بقوته إلا الزلازل النووية. تساقطت الأبنية، تناثر الزجاج وتشرّد الآلاف من بيوتهم. سقط تاريخ بيوت بيروت العريقة، وغطى غبارُ الحُزن جزءًا كبيرًا من الوطن. تسارعت سيّارات المطافئ من اللحظات الأولى التي سبقت الانفجار وما أن وصلت الفرقة الأولى حتى احترقت بالكامل بعديدها البالغ عشرة أفراد. وصلَ عددٌ لا يُحصى من المواطنين الشرفاء بعد الانفجار مع رِجال الأمن وسيّارات الإسعاف للمُساعدة. أصبح المكان ممزّقًا يضج بالفوضى كما في كلّ كارثة، إضافة إلى تمزّق البلد اقتصاديًّا واجتماعيًّا. إنها بؤرة حرب مُدمِّرة بعد انفجار لم يشهد التاريخ بأسرِه أكبر منه إلا انفجارات القنابل الذريّة. بدأت سيّارات الإسعاف والمتبرّعين بنقل المُصابين الأحياء إلى المُستشفيات الأقرب ونقل جُثث الضحايا إلى ثلاجات الموتى في مُستشفيات المدينة وضواحيها

محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا