عصف المتاهة- قراءة في رواية “المتاهة” للروائية لطيفة الحاج قديح

عصف المتاهة

أمسكتُ الرواية، فأخذني العُنوانُ برعشةِ متاهتِه، بل جذبني بشدّة إلى مدارِ الخوفِ والضَّياع. عن أي متاهةٍ تتحدثُ؟ والمتاهاتُ في عالمنا كثيرة، تتفرَّعُ من كلٍّ منها أبوابُ متاهات معقدّةٍ، قاتلةٍ. ذاتَ مرّة دخلتُ مع أولادي متاهةً في أحد ملاهي الولايات المتحدة من بابِ التسليةِ، تفرَّع البابُ إلى مساراتٍ، دخلتُ أحدَها فابتلعتني مساراتٌ أخرى، تسارعَت نبضاتُ قلبي، اعتراني بعضُ الخوف مع علمي أنني في لُعبةٍ مع أفراد عائلتي… لعبةٌ شتّتتنا لبعض الوقت، كما الكثيرُ مِمَّن حولنا. البعضُ يصرُخ، والآخرُ يبكي. كانت صدمةُ الضياع والتوهان تزداد مع ازدياد عمر التائهين، لأن معرفةَ العواقِب، وتخيُّلَ نتائجَها ولو في العقلِ الباطِن تتفاقمُ مع العُمر حدَّ الرُّعب.

عن أي متاهة تتحدث الرِّوايةُ؟ بل هي متاهةٌ محدّدة بـ “أل” التعريف. متاهةٌ شخصيَّةٌ، أسريَّة تعصُف بمن اصطادته. دخلتُ المتاهةَ من باب أُسرة مكوّنة من خمسةِ أفرادٍ، السيِّدة وفاء وزوجُها حاتم، مع ثلاثة أبناء، سنان وساري وربيع. أُسرةٌ سعيدة، مُتماسِكة، عالية الثقافة، انتقلت إلى الخليج بسبب الحرب والظُّروف غير الآمنة، ومن ثمّ إلى كندا لدواعٍ يُدركها كلّ لبناني، تاركة الأب في الخليج ليؤمِّن لها حياة كريمة. عملت السيِّدة وفاء على توطيد إقامة الأُسرة في كندا، يعودُها الأبُ كلّ بضعة أشهر فيشتدُّ عودُ الأُسرة أكثر وأكثر. ومع إغراءات الوطن التي برقت مع بداية تسعينيات القرن الماضي عادت الأُسرة شامِخة، مُستعدَّة لحياةٍ كريمة في رحاب الوطن.

كل شيء هادئ، على ما يرام كما يرى العاقلُ المطمئن، بينما تغزِل عنكبوتُ المتاهة شباكَها بإحكام “مثل الحيَّة من تحت التبن” كما يقول المثل. منذ أن عادوا لأسابيع خلت وربيع، آخر العُنقود… وآخر العُنقود دائمًا سُكَّر معقود، له طعم مُختلف في كلّ أُسرة، بدا كئيبًا مُنعزلًا، حاولت الأُمّ معرفة الأسباب من خلال مُقابلاتِها المتكرِّرة للمدرِّسين، ومُحاولةِ الغوصِ في شخصيَّة ابنها من دون جدوى. وذات يوم كما جاء في صفحة 182-183 تقول الكاتبة:

“وعندما عاد الأبوان في ساعة متأخرة من الليل، كان باب غرفة “ربيع” مغلقًا، فظنّا أنه نائم، فاتّجها مباشرة إلى غرفتيهما، وأغلقا بابها حتى صباح اليوم التالي وكان عُطلةً مدرسية، حيث استفاقت الأمّ لتجد باب غرفة ابنها لا يزال مغلقًا، فطرقت بابه منادية “ربيع حبيبي، نحن ننتظرُك كي تتناول طعام الإفطار معنا”. لكنه لم يردّ، فكرّرت الطّلب: فأجابها الصمت. فتحت الباب ببُطء وعلى مهل، ظنًا منها أنه لا يزال نائمًا، ولكنها فوجئت بأنه مشغول، فقد كان يقفُ أمام المرآة ويتطلَّعُ إلى وجهه ويقوم بحركات غريبة، من دون أن ينبُث ببنت شفة. وعندما أبصرها تدخل غرفته ، استدار ناحيتها وراح يحدّثها قائلًا:”ماما، أنظري إلى وجهي كيف أصبح مُستطيلًا، وكيف أصبحت عيناي في أعلى رأسي؟” ثم راح يسألُها باهتمام:” دخيلك قوليلي، ليش تغير جلدي وصار لونه غامق، وليش انبعج منخاري، وفاتت عيوني لجوا، وصرت بشع كثير، أبشع من المسخ توماس اللي قريت عنه امبارح بكتاب “القانون”، قولك الله مسخني جنّي؟”

صدمة  قاتلة فتحت باب المتاهة التي دخلتها الأُمّ بمعيَّة ابنها ربيع وبقيَّة أفراد الأُسرة لسنوات طوال. زيارات الأطبَّاء النفسيِّين ودخول ربيع إلى المصحَّة مرات عدّة إضافة إلى كمّ العلاجات بأنواعها لم يكن إلا متاهات تنبلجُ من بعضها البعض. آلام تعتصرُ الأُسرة، تفتُك بالأمّ والابن معًا في صِراع مع مرض لا يستسلم. لم تحدّد الكاتبة تشخيص المرض في الرواية، لكنني أستشفُّ من خلال مُقارنة بعض أحداث الرواية مع فيلم Beautiful mind الذي يسرُد سيرة جون فوربس الحائز على جائزة نوبل، وكلاهما، الفيلم والرواية منبيان على قصة حقيقيَّة، على أن ربيع عانى من انفصام الشخصيَّة. في الفيلم تجاوز البطل، بل تجاهل الشخصيَّة الوهمية التي سيطرت عليه لسنوات، لكن في حالة ربيع سيطرت الشخصية الوهمية عليه رغم كلّ المحاولات.

فقد ربيع قُدرة التفكير السليم والتواصُل الاجتماعي، المكونين الرئيسيين للتواصُل الاجتماعي عبر مُعاناته. ويبدو أن هذه الحقيقة دفعت وفاء، والدة ربيع في الرواية، أن  تقول في صفحة 10-11 نقلًا عما قرأت خلال بحثها عن شرح لحالة ربيع من خلال محرّك غوغل:” إن الإنسان ليس سوى عبارة عن أفكار تجول في عقله، وقد يستفيدُ منها إن كانت ايجابيَّة فتتطور حياته للأفضل، أو لا يستفيد منها، فتقضي بالإعدام ليس فقط على طاقِته وحيويَّته بل وعلى انسانيَّته أيضًا، إن كانت سلبيَّة.

قبل أن أتحدّث عن مُعاناة ربيع ووفاء والأُسرة، أتوقَّفُ عند نُقطة هامّة جدًا أثارتها الأديبة عبر السيِّدة وفاء، المثقَّفة، المدرِّسة، القوية فكرًا وإصرارًا. خلال بحثها عن أسباب مرض ابنها، بل متاهته المتشعِّبة تذكَّرت أن صديقَه الوحيد في كندا “رفاييل” كان يزوده ببعض الكُتب بعد كل زيارة فينهمكُ بمُطالعتها بنهم لا مثيل له وانشغال بها عظيم. تزامَن ذلك مع انتشار موجَة موسيقى الـ Heavy Metal واتباعها وبداية تألُّق عبدة الشَّيطان بطُقوسهم الجهنَّميَّة، كما أخبرتها صديقتُها زوجة السفير اللبناني في ما بعد. بحثت في كُتبه التي جاء بها من كندا، ولفت نظرَها كتابُ “القانون” للكاتِب أليستر كراولي. بحثت عنه في محرك غوغل فوجدت ما يلي كما ورد في ص 160 “هو أكثر المشعوذين المؤثرين في الجيل الصاعد على الرغم من مرور عدّة عقود على وفاته. وكانت حياته صادمة للغاية بالنظر إلى الوقت والعصر الذي عاش فيه وكان مشهورًا بممارساته الجنسيَّة مع أفرادٍ من كلا الجنسين. ويستخدم العقاقيرَ المهدئة بشكل مكثّف، ويدّعي أن ملاكه الحارس المقدّس “عيواظ”، وهو كما يقولون عنه كبير سحرة القرن العشرين، وصاحب لعنة الفراعنة، والابن البار للشيطان، يتواصل معه.

راجعت السيِّدة وفاء الطبيب النفسي لتتأكَّد من صحَّة ما اعتقدت، وهو أنَّ هذه الكُتبَ وموسيقى الـ Heavy Metal هي السبب. قال الطبيب، ليس بالضَّرورة أن تكون السَّبب الرئيسي، لكن، بل ربما كان لدى ربيع استعدادٌ للمرض، فأطلَقت تلك الكُتب بأفكارِها الزِّناد وسرَّعت عاصفةَ المتاهة. كذلك اكتشفت، وتأكَّدت من أن تغيير المُجتمعات في سنٍّ مبكرة له تأثيرٌ كبير على سلوكيَّات الفرد الذي ينمو بين هنا وهناك ما يُسبِّب صراعًا داخليًا يُفيد حينًا ويُضرُّ أحيانًا.

لن أُطيلَ الغَوصَ في التفاصيل لترك شغف القارئ للاكتشاف بنفسه، لكن سأُحاول تلخيص تأثير المتاهة التي ولجَتها هذه الأُسرة من حيث لا تدري.

ربيع، الشاب الوسيم الذكي الذي كان في مقدمة الفُصول المدرسيَّة كلّها، أضحى أسيرَ فلسفاتٍ وأفكارٍ غريبةٍ، حتى عن نفسِه فأحدثت بلبلةً وشُروخًا في كينونته. شغلت أفكارَه وغيَّرت أطوارَه فتبنَّاها كما هي. لم يعُد قادرًا على استيعاب أفكارِ الآخرين، وطرح فكرة مُتكاملة. كما أن الضغط الكبير الذي اكتنفه أقنعه بفكرة الانتحار كوسيلة خلاص راودته عديد المرات، ما أضفى مآسي ومتاهاتٍ على وفاء وباقي أفراد الأُسرة. مجردُ إعلانِ ربيع عن رغبته، بل إصراره على الانتحار يدقُّ نفيرَ الخوفِ، بل الرُّعبَ في أفراد أُسرته، لكن وفاء كانت أكثر المُصابين كونها معه طيلة الوقت، فالأخ الأكبر في كندا والثاني متزوِّج، ويسكُن بالقُرب من الأُسرة. عانى ربيع من المستشفيات وتنمُّر المرضى والممرِّضين. كشاب لم يستطع الارتباط بشريكة حياة رغم رغبته الجامحة بالزواج كما صرّح لأُمه، خاصة أن أترابَه في عُمره تزوجوا وبنوا أُسرة.  فقدانه لتوازنه العقلي عند النوبات أو الكريزة، كما أشارت الكاتبة، جعله يتصرَّف بقسوة شديدة مع والدته وفاء إلى حدّ ضربها ضربًا مؤذيًا، ليعود بعد انتهاء النوبة حنونًا معتذرًا. كان شديد التعلُّق بوالده، محبًّا لوالديه وأخويه لكن ذلك لم يُسفر عن قدرة على التعبير كما لم يستطع الآخرون الإصغاء إليه، ما جعل بون التلاقي يزداد بُعدًا. حبُّه للموسيقى وشغفُه بالعزف يدلَّان على وجود إنسان مُبدع في داخله، لكن متاهة المرض أضاعت كلّ الفرص من خلال رهاب مواجهة الجمهور، وعدم القُدرة على التواصل مع الآخرين كان عائقًا كبيرًا. مع كلّ هذا الأسى في الرواية هناك موقف واحد أضحكني رغم مفارقته. عندما علم ربيع بمنع التجوُّل واقفال البلد بسبب كورونا ووجد نفسه في سيَّارة والدته عائدًا إلى بيته من المستشفى التي لم يحبّها يومًا قال: ” شو بحبك يا كورونا، أنت الأُمّ الحنون، أنا رايح على البيت… وتعولعنا زورونا”. هذه الكلمات المُسترجَلة تدل على أنَّ في داخله إنسانًا مبدعًا غرق في مستنقع المتاهة.

وفاء، الأُمّ المُناضلة التي جابهت الأطبَّاء والمجتمع بقوَّة وشجاعة. الطبيب يتصرف بصورة علميَّة، بعيدًا عن العاطفة، فيما وفاء التي احترمت العِلم كونها مثقفةً، متعلِّمةً مارست التدريس لسنوات لم تُسقط العاطفة والرحمة من قاموسها، رغم تعرضها للضرب من ربيع خلال نوباته التي تُفقده السَّيطرة على نفسه، ورغم فقدانها لكلِّ أنواع الراحة ولحظات السُّكون. كانت دائمةَ البحثِ عبر الشبكة العنكبوتيَّة، وفي الكُتب عن بصيص أمل يُعيد إلى فلذة كبدها حياةً سُرقت منه. كانت إلى جانب ولدها في كل الأوقات، مضحِّية بكل ما تحبّ. جابهت ولديها اللذين وافقا الطبيب على إبقاء ربيع في المصحَّة من باب علمي بحت يحترمُ رأي الأطباء، بل يُذعن لهم من دون تردّد. أسلوب الحياة الكندية، شبه الخالي من العواطف التي يتميّز بها  الشرق، أثّر فيهما كثيرًا. أحبَّا أخيهما لكن بصَرامة الغرب. أما السيِّد حاتم فكان داعمًا لوفاء ولقراراتها، قريبًا من ربيع. أدركت وفاء حجم المُصيبة من البداية إذ قالت مع دُخول ابنها إلى المستشفى واصفة حاله “كدودة تغزل شرنقتها حول نفسها لتعتصم بداخلها”. حاولت جاهدة، وبكل السبل إيقاف الغزل من دون نتيجة. أدركت أن ولدها المريض ذكي جدًا، استغلَّ طيبتها للحُصول على ما يريد، وكانت تلبي ذلك  بطيبة خاطر. العلاقة الزوجيّة تأثرت، إلى حدّ كبير، خاصة بعد مرض زوجها الذي عانى كثيرًا، كما عانت هي، ووصل الأمر إلى توزيع وقتها بين المُستشفيين عندما اشتدّ المرض على زوجها.

الكاتبة التي غاصت في متاهة الأُسرة الغارقة في متاهات عدّة لم تنس متاهات الوطن التي جرفته خلال حقبة الثورة وانهيار البنيان المصرفي وسرقة المواطنين إلى حقبة انفجار المرفأ. تلك الظُّروف وذاك العصر الذي ما زلنا نعيش تداعياته أثرا في علاج ربيع ووالده حاتم وفي مستوى المعيشة. أفاضت الكاتبة في شرح تلك الحقبة بذكاء من عانى وأدرك عمق هذه الجرائم. لا مجال للخوض بها لأن متاهة الأُسرة جرفتنا معها.

بعد وفاة الأب حاتم، حضر ساري وسنان من كندا وأخذا وفاء وربيع معهما. توقف بوح الكاتبة عند هذا الحد فاسحًا المجال للقارئ أن يتصور مصير الجميع بعد ذلك.

الرواية التي بين أيدينا، رواية إنسانية، حقيقيَّة، تتماوج أحداثُها بين جُدران ابتلعتها المتاهة ومزّقت أواصرَ انسانيَّتِها، قضت على أُسرٍ كثيرة، فشرّدتها. لكن الصمود والسباحة ضدّ التيار للفوز، ولو بشقّ بسيط من الأمل، لا يستطيعه إلا شخصيَّات مُحاربة كالسيِّدة وفاء، بطلة الرواية. كما أن الرواية ترفع رايات الإنذار المبكر لمن بقي خارج المتاهة وترسُم درب أمان من خلال الموعظة المستترة بين فصول الرواية لمن شاء أن يتّعظ. وكأني بالكاتبة تقول، انتبه لما يقرأ ولدُك، إلى ما يسمع، استطلع أحوال الأصدِقاء الجُدد خاصة في البيئة المختلفة. كذلك تحذِّر من أخطار تبديل الأوطان والبيئة الاجتماعيَّة قبل اشتداد عود الأبناء. العالم الذي قصّر المسافات، قرَّب المصائب، وفتح أبوابَ المتاهات على مصراعيها. انتبهوا فالألم العاصِفُ ينتظرُ ضحايا، يسرقُ السَّعادة ويرسُم على الوجوه حُزنًا مُستدامًا.

                        د. محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا