حوار مع مجلّة أنفاس الحروف

أجرى معي الأستاذ الاعلامي محمد البيك من مجلّة “أنفاس الحروف” هذه المقابلة التي تم نشرها في عدد شهر نيسان 2025. شكري وتقديري لمجلة “أنفاس الحروف” وللأستاذة مرمر محمد والأستاذ محمد البيك على اهتمامهما.
رابط المجلة آخر المقال.

من هو محمد إقبال حرب؟

بداية أشكُر مجلَّة “أنفاس الحروف” والقائمين عليها على هذه الدَّعوة من أجل حِوار ثقافي نابِض بالحياة.
 محمد إقبال حرب كائن بشريّ على كوكَب الأرض من بين مِليارات أُخر. يرفُل بين مُتغيِّرات الأرض والبشَر، في سباق لم يختَره في حلبَة مُستقبَل مُستمرّ يَحرُقها الحاضِر في دَواة العابرين ويخطُّ قصَّة بشريّ غَبر.

على الصَّعيد المسجَّل في أروِقة الحياة، أمضيتُ أربعةَ عُقود في عالَم البصريَّات، ولعَقد مضى أُعافِر البَصيرة بين سجلَّات الغابرين مع ثُلَّة من الأُدباء والمُفكِّرين علَّنا نستشفّ رحيق البصيرة. أُدوّن قطافَ أيَّامي بين سجلَّات نُسمّيها كتبًا، مقالات وروايات، قصصًا قصيرة وأفكارًا تومض بين الفَينة والأخرى.

*صدر لي ستة عشر كتابًا بين قصَّة ورواية وفِكر، تُرجمت بعض كتبي إلى الإنكليزيَّة والإيطاليَّة وصدرت في الولايات المتحدّة. إضافة إلى دِراسات ومُشاركات أدبيَّة.

ما الذي يُشعلُ شرارة الكِتابة في داخِلك؟

مرجلُ الكِتابة لا يتوقَّف عن إطلاق الشَّرر ليستثيرَ ملَكَة التدوين. المشاعرُ الإنسانيَّة التي ينضَحُ بها كائنٌ ما على وجه البسيطة أعتبرُها شرارةَ كتابة، لكن ليس لي القُدرة على ترجمة كلّ أنواع الشَّرر. بعضُ الشَّرر أكثر تعقيدًا من كلّ الكلم، إن كان من بشريّ أم من حيوان. العالم المُتلاطِم في تسارُع جَذري لا تتوقّف براكينُه عن مزج الحُبِّ الجارف الغامِر مع القتل الشَّنيع، مزج الخير مع الفساد في تركيبات تتجدَّد كلّ يوم بجمال أخّاذ أو بشاعَة قاتِلة، تهدِمُ حيوات وتبعَث أُخر.هذا الكمّ الهائل من تلاطُم المشاعِر يؤجِّج ملكَة الكِتابة، على مدار السَّاعة بحثًا عن تعبير يرسُمها على ورقة بيضاء. ما أصعب التعبير عند الكاتب عن أحداث يراها البعض تافهة.

هل تؤمن بأنَّ الكِتابة هي وسيلة لإيصال رسالة أم هي تعبير شخصي خالص؟

ما دامت الكِتابة لم تخرُج إلى الحياة بأيِّ وسيلة فهي تعبيرٌ شخصي خالِص. لكنَّها متى وجدت روحًا على أي وسيلة نشر أصبحت رِسالة تحمِل توقيع صاحبِها. بعضُها فلسفيّ عميق وبعضُها تافه لا يستحقّ النظَر إليه. نعم، أؤمن بأنَّ الكِتابة رِسالةٌ، مُشاركةٌ فكريَّة عبر رؤى أو تجارِب، عبر طُروحات مُختلفة تتناول صِراع الحياة بإيجابيَّاتها وسلبيَّاتها. ففي عالم أصبح صغيرًا جدًا، بات من الأهميَّة بمكان أن يكون للكاتِب دورٌ وموقِفٌ فيما يمرُّ عبر العالَم الصغير.
يحمِلني قلمي للعمل حثيثًا على تدوين مُحاولاتي وتجاربي في مجالات عدّة لأستنتجَ ببصيرتي سرَّ الحدَث، ألوانَ المشاعِر البشريَّة بفرحِها وتعاستِها عبر إصدارات أُشاركُها رفقاء درب الحياة في هذا الكَون.

من هو الكاتِب الذي أثَّر في مسيرتك، وهل هناك كاتبٌ تهمُّك أعمالُه؟

لا يوجد كاتب مُحدَّد أثّر في حياتي، لكن هناك الكثير من الكُتّاب الذين أثَّروا فيَّ بطُرق مُختلفة، أدب وشِعر وفلسفة وعلوم شتّى. تجمعُ النَّحلة الرحيقَ من مئات الأزهار لكنها لا تستطيع، في الواقع، إخبارَك أيّ زهرة أعطت شَهدها رحيقًا طيِّبًا. في الحقيقة أيُّ كتاب يُعلِّمني أمرًا ما، حتى الكُتب التَّافهة، أو الرَّكيكة، تُعلِّمني الابتعاد عن كِتابة أمرٍ مُشابِه، بل تُثير في داخلي شهيَّة التعرُّف إلى تلك الشخصيَّة التي أفرزت ذاك الأدب الهابِط لأتعرَّفَ على عُمق عصر التَّفاهة الذي نعيشُه.

أما السُّؤال عن كاتب تهمُّني أعمالُه، فالاهتمام ينبعُ من الطَّرح الذي يُثير شهيَّتي للتعلُّم وسبر أغوار لم أصِلها بعد، وكُثر يندرجون في هذا السياق. في السَّنوات الأخيرة انصبَّ اهتمامي على الحقائق التي أفرزَها عِلم الأركيولوجيا وعِلم الفضاء من عُلوم غيّرت مفهوم البشريَّة والكون ماديًا وروحيًا وتاريخيًا، مما شرّع أبواب معرِفة قد تُلامس  بعضًا من الحقيقة. يحملُني مصدرُ العُلوم، في أيّ مجال وُجد، بجوارحي إلى فضاء معرفي أوسع مدى وأعمق قيمة إنسانيًّة وحضاريَّة.

هل تكتُب لنفسك أولًا، أم للجُمهور؟

أيُّ مادّة يكتُبها الكاتب ثم يُخفيها أو يُمزِّقُها فهي لنفسه، وما عدا ذلك فهو للجمهور. أعتقد أن السُّؤال يجب أن يكون “هل نكتُب ما نريده نحن أم ما يريدُه الجُمهور؟” الكتابة للنفس تبقى سِرّ الكاتِب الذي يتوهَّج مع ذاتِه لصَقلها من شوائب الوُجود، ويفجِّر ينابيع إلهامه، تلك التي تروي صفحةَ إبداعِه التي يُشاركها مع الجمهور. والكاتب الوفي لرِسالة الكِتابة هو الذي يكتُب ما يعتقد أن الجمهور بحاجة إليه ليسمو، لا ما يتطلَّب سوق “تجارة الكُتب”. في النهاية يمكنني القول إنَّ كِتابتي لنفسي مُتعةٌ شخصيَّة تمنحُني طاقةَ الاستمراريَّة المُتوهِّجة، أما الكتابة للجُمهور فهي سعادةٌ أوسع وأشمل تُذيب كينونتي مع أبناء هذا الكوكَب.

إذا كان بإمكانك تغيير شيء واحد في طريقة نشر الكتب الآن، ماذا سيكون؟

ما الفائدة من النشر؟ هل نعني نشر المعرفة أم زيادة المبيعات؟ قبل أن أُجيبَ على ذلك هناك حقيقة استقيتُها من أرباب دور النشر وهي أن أكثر الكُتب مبيعًا في المكتبات والمعارض العربيَّة هي التي تتمحور حول  “الدِّين والشعوذة والطَّبخ والجنس”. أي أن القارئ يبحث عن هذه الكتب، بل يُحدِّد عناوين ما يُريد سلفًا. ويُمكن ردّ ذلك إلى السطحيَّة في القراءة، الاستعانة بالغيب لمُواجهة الحياة، البحث عن مُتعة الأكل والجنس، فيما يحتاج المُواطن إلى المعرفة التي تُساعده على التطوُّر الفِكري، السُّؤال والشكّ والبحث، لذلك البَون شاسعٌ بين ما يريده القارئ وما يحتاجه لأنه يبحث عما يعرف ولا يُدرك حاجتَه إلى أبواب لم تُفتح له قط. من هنا لا أرى نتيجة تُذكر في استراتيجيَّات نشر الكُتب، لأنّ المُشكلة في القارئ الذي لا يجِد في الكُتب الأدبيَّة والعِلميَّة هدفًا وطريقة حياة. كذلك، الكاتِب ليس تاجرًا ليعمل على تسويق كُتبه وعُصارة أفكاره، فمُشكلة التسويق هي من اختصاص دور النشر. والأهم هو دور وزارات التربية والثقافة العربية المُزرية التي تُنتج شُعوبًا تدور في عصر التفاهة. يجب أن تتبنَّى  الدُّول، مُمثَّلة بوزارات الثقافة والتربية والإعلام،  برامج جادَّة لتعليم اللُّغة العربيَّة كما يجب، وتشجيع القراءة وتعليم أُصولها للنشئ لتبني جيلًا مُثقفًا واعيًا، عِلميًا وأدبيًا. بعد القيام بهذه الخطوات لن نحتاج إلى خِطط تسويقيَّة كما يحصل للمواد الاستهلاكيَّة.

كيف تحافظ على الإلهام باستمرار؟

ليت الإلهامَ سِلعةٌ، أو شتلةٌ زراعيَّة، لنتمكَّن من تنميتِها بسُهولة في مزارع الفِكر والإنسانيَّة. الإلهامُ علاقة خوارزميَّة مُعقَّدة بين المشاعِر والفِكر والمَعرفة، بين ما حدَث ويحدُث وما نتخيَّله سيحدُث. هي رباطٌ وثيق بين الفرد ومُجتمعِه، بل الكَون. بما أنَّ الإلهامَ طاقةٌ وخيال، رؤية وجُنوح أفكار لا تشتعِل أو تتوهّج بالطريقة نفسها في كلّ مرّة. فما يُلهِمُك اليوم لا يُلهمُك غدًا. وما يُلهم مُبدعًا أو فنانًا قد لا يفتحُ آفاق مُبدع آخر، ما يجعل تصوُّر استثارة الإلهام ضربًا من الخيال. كل ما يُمكنني فعلُه أن أبقى متوثبًا، مُشنّف المشاعِر والأحاسيس، أنتظر أحلامَ اليقظة والكرى في آن حتى أقطُفَ لحظة إلهام تفتح آفاق عوالم أُعلنُ عن اكتشافها في قصَّة أو مقال أو رواية… عبر ومضة أُضيفها إلى أيقونة إلهامي.

ما هو الأثر الذي تأمل أن تتركَه أعمالك الأدبية في المجتمع؟

آمل أن يستفيد القارئ من تجربتي الفكريَّة التي سعيتُ من خِلالها إلى تقديم آرائي في سبيل إنسان أفضل. سأخبرُكم قصة حدثت معي حول هذا السُّؤال.

بعدما نشرتُ روايتي “هنا ترقد الغاوية” وبعدما مُنعت في بعض الدُّول، التقيتُ أدباء سعوديِّين في صالة أحد الفنادق في الخُبر. كان بين المجموعة تاجرٌ شابّ حضر مع صديقه الأديب. بعد سماعه أطرافَ الحديث سألني عن كِلفة الطبع والنشر وكيف سأرُدُّ التكاليف. أخبرتُه أن الهدف غير مادي  وكرَّرتُ ذلك، لكنه أصرّ على أن ما أفعله جُنون، إذ كيف أُهدِر مالًا قبل ضمان الرِّبح. قبل أن تنفضَّ الجلسة  كرَّر السؤال نفسه، فقلت: كما سمعتَ، تبحثُ روايتي في جريمة الشَّرف لتُنقذَ أرواحَ الفتيات من قتل متعمَّد لا يحمل إلا شريعة القبليَّة. ذات يوم، وقبل أن أرحل، إذا علِمتُ أن أحدَهم لم يقتُل أختَه أو ابنتَه بسبب كتابي ستكون أرباحي لا تُقدَّر بثمن.

هل يمكن للكاتب أن يعبر عن نفسه بالكامل من خلال كلماته، أم أن هناك دائمًا مساحة للغموض والاختباء؟

كلٌّ منّا قمر يدور في فلَك البشريَّة، له وجهان بالضبط كالقمر الذي يدور حول الأرض. وجه مُنير يراه الجميع، بعضُهم يراه شاحبًا والبعض الآخر يقرأ تفاصيله بدقَّة، ووجه أسود لا يراه أحد. نعم يستطيع الكاتب التعبير عن نِصفه الظَّاهر ببراعة، أما التعبير عن نِصفه الخفي، صُندوقِه الأسود فهي مهمّة شاقّة، محفوفة بالمخاطِر تحتاج إلى جُرأة وصفاء ونقاء.

أخيرًا، هل لديك نصيحة للكُتَّاب الجُدد الذين يتطلَّعون إلى ترك بصمتهم في عالم الأدب؟

النصيحة الوحيدة للكُتّاب الجُدد، هي القراءة الدَّائمة، في شتى المواضيع لأنها ستزيدُ المعرِفة وتفتحُ أبوابًا نحو شُموليَّة التفكير، قدر الإمكان. ستزيدُ من المُفردات وكيفيَّة استعمالها ببلاغة في موضعها، كما التعرُّف إلى أساليبَ لا تنتهي من التفكير والتعبير من خلال دَمج المعارِف التي تصنعُ عالمَنا بدهشة لا تنتهي. قد تمرُّ سنوات قبل أن يتمكَّن الكاتب الجديد من بناء شخصيَّتِه الأدبيَّةِ المُميَّزةِ، والبعض قد لا ينجح بتاتًا.

: https://issuu.com/anfaasalhorof/docs/_5bb569c42ec917رابط المجلّة

محمد إقبال حرب

اترك تعليقًا