تقنيات السرد في الرواية التجريبية “شيء من بعيد ناداني “نموذجًا
للكاتب الكبير: أحمد طايل
بقلم د. نجلاء نصير
إنَّ السرد في الرواية التجريبية يشكل نمطًا فنيًا يسعى إلى كسر التقاليد الأدبية والتجديد في الأساليب السردية. وضمن هذا السياق، تمثل رواية “شيء من بعيد ناداني ” نموذجًا يستحق الدراسة. في هذه الدراسة، سنستعرض أبرز تقنيات السرد المستخدمة في الرواية، مع الإشارة إلى الأسلوب السردي الذي استخدمه المؤلف لتقديم رؤيته ورسالته التي يتبناها في أعماله وهي قيمة الانتماء والعودة إلى الجذور كما تعد الرواية التجريبية من الأنواع الأدبية التي تسعى لتفكيك الأطر التقليدية للكتابة، متجاوزةً الطرق السردية المتعارف عليها، لتسبر أعماق التجربة الإنسانية بطرق مبتكرة وغير مألوفة. رواية “شيء من بعيد ناداني” للكاتب أحمد طايل تقدم نموذجًا للرواية التجريبية التي تستند إلى تعدد الأبعاد السردية، وتوظيف الرموز، وتداخل الأزمنة. تسعى هذه الدراسة إلى تحليل العنوان والشخصيات في الرواية بشكل سيمائي للكشف عن المعاني الخفية التي يحاول الكاتب إيصالها.
فالعنوان
يُعد العنوان “شيء من بعيد ناداني” مفتاحًا رمزيًا يقود القارئ نحو فهم أعمق للمعاني الكامنة في النص. يظهر العنوان كإشارة إلى دعوة خفية وغامضة تجذب الشخصية أو القارئ إلى عالم من الغموض والتجربة الماورائية. يمكن تحليل العنوان سيمائيًا كالآتي:
“شيء“
يشير إلى شيء غير محدد، ويمثل الغموض وعدم اليقين، ما يثير فضول القارئ ويدعوه لاستكشاف ما قد يكون عليه هذا “الشيء”. هذه اللفظة تُضفي شعورًا بعدم وضوح هوية هذا “الشيء” كدعوة للاستكشاف.
من بعيد”
يُعبّر هذا الجزء عن المسافة سواء كانت جغرافية، زمنية، أو روحية. قد يعني أن هذا الشيء يعود من الماضي، أو من عالم آخر، أو قد يكون تجسيدًا لأحلام وأفكار وأحاسيس بعيدة لم تُفصح عنها الشخصية بعد.
“ناداني“
هنا يدخل البعد الشخصي، حيث يمثل “النداء” رابطًا بين الشخصية وهذا الشيء البعيد. إنه دعوة للعودة إلى الجذور، أو للبحث عن الذات، أو حتى استكشاف المجهول. هذا الجزء يثير إحساسًا بالاستجابة لدعوة خفية، تفتح أبواب الأسئلة الروحية والوجودية.
الإهداء “إلى بلدي التي تعيش بي وأعيش بها“
فالإهداء يعبر عن الشغف بالوطن والتأكيد على أن الانتماء الحقيقي لا ينحصر في العيش على أرض معينة، بل يمتد ليشمل علاقة وجدانية عميقة يتداخل فيها الوطن مع روح الفرد وذاكرته وهويته. يعبر هذا الإهداء عن حب متجذر للوطن، ويمهد للرواية كمحاولة لاستكشاف هذه العلاقة المركبة بين الكاتب وبلده، وتجسد الصراعات التي يعيشها الشخص بين ذاته وعالمه المحيط.
الشخصيات
لويزا :
اسم علم مؤنث إنكليزي: LOUISA من أصل جرماني،
معناه: الأميرة المحاربة الشهيرة بطلة الرواية من أصول أوربية الفتاة التي التقت بعرافة في لندن وهي بعمر الخامسة عشر ص 17 ” حلمك الذي يراودك ويدور في رأسك من أعوام ..هو ببلاد بعيدة سوف تناديك وسوف تلبين النداء ..”
العرافة :
فضلا عن ذلك تلعب العرافةدورًا أسطوريًا في الرواية
تأتي شخصية العرافة في الرواية بمثابة مرشدة روحية للشخصيات، حيث تقدم نبوءات ومشورات تتعلق بمصائرهم. تُعتبر العرافة تجسيدًا للحكمة القديمة والارتباط بالتراث الروحي، مما يجعلها رمزًا للمعرفة الباطنية التي تربط الشخصيات بالماضي وتدفعهم لاستكشاف مستقبلهم. وتُظهر الرواية كيف أن العرافة تُعبّر عن مشاعر الخوف والأمل التي ترافق الشخصيات، ما يجعلها عنصرًا جوهريًا في التفاعل مع الجانب الأسطوري من النص.
تأتي شخصية العرافة في الرواية بمثابة مرشدة روحية للشخصيات، حيث تقدم نبوءات ومشورات تتعلق بمصائرهم. تُعتبر العرافة تجسيدًا للحكمة القديمة والارتباط بالتراث الروحي، مما يجعلها رمزًا للمعرفة الباطنية التي تربط الشخصيات بالماضي وتدفعهم لاستكشاف مستقبلهم. وتُظهر الرواية كيف أن العرافة تُعبّر عن مشاعر الخوف والأمل التي ترافق الشخصيات، ما يجعلها عنصرًا جوهريًا في التفاعل مع الجانب الأسطوري من النص.
–فريد جلال الهميلي تلميذ دكتور زاهر الحباك (البطل ) ص34 “كان فريدًا لحظة مولده لم يبكِ مثل كل الأطفال يحكون أنه خرج للحياة ضحوكًا”
يحمل اسم “فر يد” خصوصية التفرد فهو اسم علم مذكر وهو صيغة مبالغة من (فرْد) وهو الرجل الذي لا نظير له في اللغات الأجنبية ففريد يعد المحرك الرئيس للخط الدرامي للرواية فمن خلال أسرته وتفاصيل المكان الذي لم يكن مجرد خلفية للنص الروائي ولكنه كان يلعب دورا رمزيا
المكان
يُعَد المكان في رواية “شيء من بعيد ناداني” عنصرًا ديناميكيًا يتجاوز كونه خلفية للأحداث، ليصبح أداة تُعبّر عن مشاعر الشخصيات وصراعاتها الداخلية. من خلال تقديم الأماكن كرموز للحنين، والاغتراب، والبحث عن الذات، استطاع أحمد طايل أن يجعل المكان جزءًا من روح الرواية وأبعادها العميقة. تبرز هذه الدراسة كيف استطاع الكاتب استخدام المكان كوسيلة فنية لخلق تجربة سردية غنية ومعبرة تتجاوز المكان الفعلي لتصل إلى ما هو أبعد من حدود الملموس.
فالمكان يبرز الحضارة المصرية القديمة وقيمتها ويمثل الجذور والانتماء من خلال عمل والد فريد مع البعثات الجنبية للتنقيب عن الآثار استطاع الكاتب من خلال تضفير الأحداث أن يربط الماضي بالحاضر
فالقرية والمدينة كرموز للمقاومة والانتماء
تستخدم الرواية القرية كمكان يعكس البساطة والأصالة، فيما تمثل المدينة التحولات السياسية والاجتماعية المتسارعة. يُنظر إلى القرية كمركز للمقاومة، حيث يجتمع أهلها على رفض سياسات الإخوان وتأييد حركة تمرد. تعبر القرية عن قوة الشعب وتشبثه بجذوره، مقابل المدينة التي ترمز إلى تآكل القيم الأصيلة وازدياد التوتر المجتمعي
الزمان
يعد الزمن في الرواية التجريبية عنصرًا جوهريًا يساهم في تشكيل الأحداث وتطور الشخصيات، كما يمنح السرد بُعدًا ديناميكيًا يتجاوز الخط الزمني التقليدي. في رواية “شيء من بعيد ناداني” للكاتب أحمد طايل، يأتي الزمن ليس فقط كأداة ترتيب للأحداث، بل يحمل رموزًا أعمق تكشف عن طبيعة الشخصيات وصراعاتها الداخلية، ويؤدي دورًا هامًا في رسم الملامح النفسية والروحية للرواية. تستعرض هذه الدراسة رمزية الزمن في الرواية، وتكشف كيف يوظف الكاتب الزمن لتعزيز موضوعات الرواية ورموزها.
الزمن الدائري ودلالته الروحية
التكرار والزمن الدائري
تتبنى الرواية نمط الزمن الدائري الذي يعبر عن عودة الشخصيات إلى الماضي وتكرار التجارب. يمثل الزمن الدائري في الرواية استمرارية للمعاناة والأمل، ويشير إلى أن الأحداث ليست نهائية، بل تميل إلى العودة والتجدد. هذا النمط يضفي على الرواية طابعًا تأمليًا ويعكس البحث عن الذات والأمل في تجاوز العقبات المتكررة.
رمزية الزمن في السياق الروحي
يوظف الكاتب الزمن كرمز للتحولات الروحية، إذ تُظهر الرواية أن الوقت يمكن أن يكون عملية مستمرة من التأمل والنمو. يسهم الزمن الدائري في إيصال فكرة الزمن غير المحدود والذي يمزج بين الماضي والحاضر، ليجعل الشخصيات تعيش تجربة ذات أبعاد روحية ومعنوية.
التنقل بين الماضي والحاضر(زمن الاسترجاع وزمن الاستباق)
تعتمد الرواية على تداخل الأزمنة من خلال التنقل بين الماضي والحاضر، مما يعكس عدم قدرة الشخصيات على الانفصال عن تاريخها الشخصي. يظهر الزمن كمرآة تعكس تجارب الشخصيات وارتباطها بالماضي، مما يجعل من الحاضر مجرد امتداد للماضي الغني بالرموز والدلالات. يُعتبر هذا التنقل أسلوبًا سرديًا يعزز من بناء الشخصيات وتطورها.
تعدد الأصوات السردية والزمن الشخصي
تلجأ الرواية إلى تعدد الأصوات السردية، بحيث تتيح لكل شخصية أن تتحدث عن تجربتها في أزمنة مختلفة، مما يسهم في تعميق فهم القارئ لوجهات النظر المتنوعة حول نفس الحدث. يمثل هذا الأسلوب الزمن الشخصي لكل شخصية، ويجعل الزمن عاملًا شخصيًا يرتبط بتجربة كل فرد على حدة، ما يعكس تفرّد كل شخصية ورؤيتها الخاصة للعالم.
الزمن كعامل رئيس في النوستالجيا
استرجاع الذكريات وأثر الزمن على الشخصيات
يُعد استرجاع الذكريات عنصرًا أساسيًا في الرواية، حيث يمثل الزمن وسيلة لاستكشاف الماضي وتأثيراته على الشخصيات. تُصور الرواية كيف أن الذاكرة تُعيد الشخصيات إلى أحداث قديمة وتدفعها لاسترجاع مشاعر مختلطة من الحنين والأسى. يساهم هذا الاسترجاع في تعزيز رمزية الزمن كعامل نفسي يُظهر مدى تعقيد الشخصيات وانجذابها إلى جذورها.
الزمن والحنين للماضي
يعكس الزمن في الرواية الشعور العميق بالحنين إلى الماضي، الذي يعتبره الكاتب زمنًا بريئًا أو أصيلًا بالنسبة للشخصيات. يشعر القارئ بأن الشخصيات تعيش حالة من الاغتراب في حاضرها، مما يجعلها تنجذب بشكل دائم إلى ماضيها، باحثةً فيه عن الأمان والهوية الضائعة ويتجلى ذلك في قرار والد فريد جلال الهميلي بالعودة للحياة في العذبة والاستقرار بها قرار العودة للجذور
فضلا عن ذلك تسلط الرواية الضوء على مرحلة تاريخية مهمة عاشتها مصر، مستعرضة التغيرات السياسية والاجتماعية التي جرت في تلك الفترة، بما في ذلك حركة تمرد والصراع على السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين. تعتمد الرواية أسلوبًا تجريبيًا، يجمع بين الواقعية والرمزية، لتقديم تجربة سردية تنقل القارئ إلى عمق الأحداث وتتيح له فهم تأثيرها العميق على الشخصيات والمجتمع.
التحولات بعد ثورة يناير
تعكس الرواية حالة من الإحباط الناتج عن تلاعب جماعة الإخوان بالثورة ومحاولتها السيطرة على الحكم، وهو ما دفع الشعب لمعارضة سياساتهم. يبرز الصراع على الحكم كمحرك للأحداث، خاصة بعد أن بدأ المصريون يشعرون بأن طالبهم لم تتحقق، وأن التغيير الذي ناضلوا من أجله كان مهددًا
- حركة تمرد كمحرك للتغيير ودور لويزا رشيدة بعد إشهار إسلامها في جمع الاستمارات من جموع الشعب المصري والتي ذيلت استماراتها بإمضاء “بنت مصر “
تصور الرواية حركة تمرد كرمز لإرادة الشعب المصري في استعادة حقوقه، والتعبير عن رفضه لحكم الإخوان المسلمين. تُظهر الرواية تأثيرات هذه الحركة من خلال شخصيات متعددة، تسعى للتغيير وتواجه صعوبات في سبيل تحقيقه. يتم تقديم حركة تمرد كحركة شعبية صاعدة، تعبّر عن طموحات المصريين ورغبتهم في التخلص من الفساد والتبعية
كما ألقت الرواية الدور على جماعة الإخوان وممارسات السلطة
تشير الرواية إلى استغلال جماعة الإخوان للدين كوسيلة لبسط نفوذها، وتحقيق مصالحها. تُظهِر الرواية الجماعة ككيان يسعى للهيمنة على مفاصل الدولة، غير مكترث بتطلعات الشعب أو حقوقه. تعكس هذه الصورة التوجهات السياسية للجماعة التي تسببت في خلق حالة من الغضب الشعبي والرغبة في مقاومة سيطرتها تمثيل الصراع المجتمعي وتأثيره على الهوية الوطنية
تبرز الرواية تأثير حكم الإخوان على الهوية الوطنية المصرية، حيث تركز على الاغتراب والقلق الذي شعر به الشعب تجاه الممارسات التي قوضت مفهوم المواطنة والانتماء. تتضح هذه التأثيرات من خلال شخصيات الرواية التي تعاني من الصراع النفسي والاجتماعي الناجم عن وجود سلطة لا تعبّر عن آمالها وطموحاتها
مصر كأم وأيقونة للوطنية
تمثل مصر في الرواية الأم التي احتضنت أبناءها، وتحاول حمايتهم من التفكك. يتجلى هذا الرمز في الدعوات المستمرة للعودة إلى القيم الأصيلة، ومحاربة أي قوة تهدد النسيج المجتمعي المصري. ترمز مصر إلى كيان واحد يجمع الجميع تحت راية الوطنية، ويمثل ذلك الرمز محورًا للتلاحم الشعبي في وجه صراع الإخوان على السلطة
التحول في وعي الشخصيات والالتفاف حول الوطن
تتطور شخصيات الرواية بمرور الوقت، حيث تتغير رؤاها تجاه المجتمع والسلطة، وتتعزز رغبتها في تحقيق التغيير. يصور الكاتب كيف تنمو شخصيات الشباب بشكل خاص في ظل هذه التحولات، لتدرك أهمية مواجهة القوى التي تحاول السيطرة على الوطن باستخدام الدين والسياسة كأدوات للهيمنة.
تعبر رواية “شيء من بعيد ناداني” عن رؤية نقدية عميقة لتاريخ مصر السياسي الحديث، من خلال رمزية الأحداث والشخصيات التي تجسد نضال الشعب المصري. تجمع الرواية بين سرد الأحداث الواقعية وتقديم الرموز التي تدعو للتأمل في المعاني العميقة، مثل الهوية والانتماء والوطنية. ويُعد هذا العمل شهادة أدبية على فترة زمنية مفصلية في تاريخ مصر، حيث تجسّد الرواية تجربة إنسانية تحمل بين طياتها أبعادًا سياسية واجتماعية وثقافية مهمة.
اللغة سهلة سلسة لم تخل من التناص الحرفي الغنائي لأغنية شادية “شيء من بعيد ناداني وكما بدأت الرواية بالعنوان ختمت بدائرية النص “شيء من بعيد ناداني