قراءة في رواية “العرّافة ذات المنقار الأسود”

قراءة عميقة تغلغلت في خبايا “العرّافة ذات المنقار الأسود” قدّمتها الناقدة القديرة، الأستاذة جدوى سلمان عبّود من اللاذقية- سوريا الشقيقة

العرافة ذات المنقار الأسود

======================

لم أجدها عجالة

هذا النص الروائي للأستاذ الكاتب محمد إقبال حرب

أخذ وقتاً وامتداداً كافيين للحديث في أوضاع مجتمعاتنا وعلاقتها بالثروة و الدين والسياسة و المذاهب مروراً بالسحر والشعوذة والفتنة وبث الشائعات.

تجَمع يساق بإشارة من مشعوذ أورجل دين أومتسلط أو رب أسرة ، أو قائد مجموعة أو سيدة متحكمة

وجدت صعوبة في الدخول الى الرواية مع بدء القراءة، إذا بها تحملني الى عوالم من التورية الجادة، ويغمرني فضاؤها بوشائج الغيم الماطر في بعض الفصول ثم بالرباب والضوء في فصول أخرى..

هنا الأرض كلها أوطان للدجاج والحيوانات وإن كانت زريبة أو مزرعة. فالرواية تفترض راو يعرض ويفكر ويناقش بمنطق البشر ،بينما شخصيات العمل وتصاعد الأحداث و الحكمة والصراعات والحلول كلها من الدجاج وإليه..

الدجاج يدجّن وينقنق ويصيح وينفش ريشه ويتباهى بعرفه ويقبل المهانة والقتل والتعذيب ونتف ريشه..

في إسقاط واضح على البشر.

صراعات مستمرة لأسباب لاحصر لها فهل ستعرف هذه المجموعات الاستقرار وبالتالي الحضارة والازدهار يوماً ؟.

يقولون: من خلق ليزحف لايستطيع الطيران.

هل يصحُّ هذا بالمطلق؟

فقط غياب المعرفة هو مايخلق أجيالاً متعاقبة فاشلةً

من أين تأتي المعرفة وكيف تفيد من التجارب وكيف توظفها عقول جيل سيحكم وطناً ويبني دولة في المستقبل القريب حين هي لاتعرف

الإخلاص للوطن ، و لاتقديس العمل ولا الحرص أوالالتزام ولا واجب الحماية!.

في النص الروائي كثير من الفوضى والتشرد والقتل تحت شعارات واهية وأهداف مصطنعة على مدى عقود وأعوام مايورث الحقد والضغينة و الاقتتال ،قابلها قلة قليلة من الحكماء ينظرون إلى المجتمع والإدارة من صومعة التأمل في حين تشتعل الحروب وتقوم المنازعات وتسيل الدماء.

أسلوب الراوي العليم ببواطن الأمور ساهم في سبر دهاليز الشخصيات من خلال خيال مسترسل متوازن وتداعيات تفتقت عما لايعد من صور وأحداث أحاطت بحقائق وتواريخ وجغرافيا ومجتمعات من هنا وهناك قولبتها لغة حيّةٌ المفردات غنِيَّةٌ بالمعاني:

“دجاج العشوائيات “،

” لعن الساعة التي عرف بها الدجاج الأبيض جنس البشر وأدرك كيفية إشعال النار والتعذيب بها”.

“تباً لأبو صيّاح ونبوت وكل من اتبع ملّتهما” ،

“العنوا صياحاً الذي أدخل الغرباء وأصبح عبداً لهم”…..

“فوضى يسمونها خلّاقة ليصنعوا منها عبيداً”

في الرواية

إشارات علنية لمجتمعات موازية ..

تمكن الكاتب من السيطرة على روح الفكرة أثناء السرد ونجح في تدرّج تصعيدي مليء بالشغب المدروس والمقصود

ضمن سياق ذكره ابن خلدون

في مقدمته الشهيرة عن أطوار نمو الدولة.

تبقى السياسة هي صاحبة الصولجان والأقوى تأثيراً وتوجيهاً للمجتمعات بسبب سلطتها المباشرة المستمدة من المجتمع ذاته وهي ما تحدُّ من سطوة التقاليد والشعوذة والفوضى باعتماد قوانين عادلة صارمة وبسط سلطة القيم المثلى إذ لاغنى للدولة ولا للمجتمع عنهما.

أقف عند العرافتين ذات المنقار القاني وذات المنقار الأسود كقدرة تبدو خارقة تسيطر على الدول والحكومات وتتدخل في

النظم السياسية والإدارية والأهلية وتتمادى لتصل إلى الأفراد إذا دعا الأمر من أجل توجيه بوصلة التاريخ بعيداً عن العدل من اجل نهب خيرات الشعوب والاستحواذ عليها

تحققت مساحة الراحة والأمان بظهور الحكيم زغلول وهو الرمز المثالي للوعي المطلق

، ودّان، صفران، نبله. يسيرون على هديه.

صلة الوصل بين الحكمة كقول/ وعمل هي ودّان الذي عاد وقد أدرك أن السياسة والحكمة صنوان في دولة منيعة الأسوار ومجتمع ينعم بالاستقرار والأمان.

المزرعة الذهبية: هي الأرض وماعليها

خادم القوم سيدهم

تبين فيما بعد ان

سيد القوم خادمهم

من نقطة الضعف هذه أحكم الخدم سلطتهم على الصغار كجيل حديث آتٍ.

حين تسلّموا دور الكبار في الرعايةو التربية وتأمين حاجات الأسرة بما في ذلك حاجات الكبار.

إذن نعود لنقول : الأسرة

هي حجر الأساس الأول في بناء الدولة

تفريغ الآباء والأمهات من أدوارهم جعل الوقت الفارغ متاحاً للهو والعبث وقشور المظاهر والاتكالية

اهتمام الخدم بالصغار مكنهم من غرس الأفكار التي يريدون و بالتالي سيطرتهم على القرار في كل ماسيحدث وهذه هي الأنامل الناعمة التي تتحكم في وظائف المجتمعات وبنيتها العاطفية والأخلاقية والمعرفية ،وهذا ماتدور حوله مساحة واسعة من السرد.

.

اقوى خطوط الرواية وأكثرها وضوحاً المكائد ، البغضاء وايغار الصدور والحقد كأساليب وخطط عمل للوصول إلى الأهداف

المكائد قصيرة المدة والمدى لأن نمط حياة الدجاج قياساً إلى درجة الوعي لا يَحتمل ، ما جعل الكاتب يخطط لتحقيق أبعاد اعمق من خلال شخصيات ثانية وثالثة كي يبني عملاً روائياً مدروساً وقد تحقق له ذلك.

نجح في الإمساك بخيط الزمن حين أعطى كل حدث موقعه في العرض والتأثير ماجعل للألغاز والرموز عوالم موازية في وعي القارئ وتخيله.

تماماً كما في المجموعة القصصية: كليلة ودمنه كعالمٍ متخيل استمر في الذاكرة سنين طوالاً كذلك

عملٌ روائي بعنوان/ منطق الطير/ على لسان الطيور، لكن الأقرب إلى روح رواية العرافة ذات المنقار الأسود هو ما كتبه جورج أورويل في مزرعة الحيوان مع فوارق يعرفها كل من قرأ العملين البديعين.

إنها السياسة وعلم الاجتماع وتشابك أقطاب الدين والتقاليد وغريزة الانتماء والطاعة في المجتمعات كافة

بين العرافة ذات المنقار القاني والعرافة ذات المنقار الأسود فرق الزمن وحسب؛

لم يتغير الهدف ولا الأسلوب ولا حضورها وسطوتها تلك العرافة الشمطاء

التي تتحكم بمصائر الشعوب من خلال الدجل وتضخيم الذات والسطوة، أتوقع أن هذا سببَ عودتها كاستعمار خبيث في ثوب كاهنة أو عرافة.

العرافة ذات المنقار الأسود رواية تستحق وستبقى طويلاً في الذاكرة لما فيها من دقة السبك وقوته وتميزه وبذخ اللغة ورفعتها.

شعرت أن لا كلمة فيها زائدة ولا صوت خرج من غير مكانه فأحدث شغباً ..

حتى مجتمع الدجاج يستطيع أن يصبح أفضل حالاً

شكراً للأستاذ محمد إقبال حرب؛ أهنؤه على جهده وتميز منجزه .

تمنياتي بمزيد من التألق والنجاح.

بالتوفيق دائماً.

اترك تعليقًا