!ذاتُ اليراع الذهب

دراسة نقدية لرواية العرّافّة ذات المنقار الأسود” قدّمها د.عماد فغالي في ندوة أقيمت في منتدى الربيع الأدبي في علي النهري، بتاريخ 26 تمّوز 2024.
ذات اليراع الذهب
لا يُنبئ عنوان الرواية إلاّ قليلاً بالنوع الأدبيّ الذي اعتمده الكاتب، وإن أوحى عبر كلمة “المنقار” التي قد تأخذ في دلالات أكثر منها واقعًا. هذا لأنّ “العرّافة” تهدي إلى عالم الجنّ اللم تخلُ الروايةُ منه قط.

محمّد إقبال حرب، رحتَ بنا في رحلةٍ تشويقيّة، اختلطت فيها التصوّرات غنيّةَ المعاني والأمثولات. لن أدخلَ في موضوعاتيّتها على حمْلها الوارف. اخترتُ القراءةَ الأسلوبيّة للكمّ الكبير من العناصر الذي يودي إلى الغاية التي في اعتقادي، حملتكَ على الصياغة النوعيّة القدّمتَها.

عُرِفت الروايةُ في تحديدها، سردًا واقعيًّا أو شبهَ واقعيّ .Vraisemblable بمعنى الرواية تعرضُ لأحداثٍ وقعت أو يمكن أن تقع. هذا لا يمنع خوضَ التجربة من باب الخرافة. تقول نادية هناوي: “السرد غير الواقعيّ هو الذي أنجب السرد الواقعيّ”. هذا بالضبط ما أثبتَه روائيُّنا في “العرّافة ذات المنقار الأسود”. السردُ الخرافيّ فيها مألوفٌ فيضًا في عالم الأدب. أسلوبٌ بلاغيٌّ قريبٌ ومحبّب في الأدب لكن في الحياة أيضًا. هو استعارةُ عالم الحيوان، سردًا ظاهرًا وإيعازًا دلاليًّا. دعوني أذكرُ كليلة ودمنة لابن المقفّع في العربيّة وLes fables de La Fontaine  أنموذجًا.

“العرّافة ذات المنقار الأسود” روايةٌ في عالم الدجاج. تحاكي الحياة الدجاجيّة في واقعها الطبيعيّ، من النواحي الغذائيّة والمبيتيّة والتزاوجيّة وغيرها. هنا، جديرٌ ذكرُ الحقول المعجميّة لعالم الدجاج الذي بنى الكاتب سرده النصيّ به امتلاءًا. الصياح، النقّ والبقّ، السفاد، النقر، العرفُ، الريشُ… أهميّة المعجم الدجاجيّ ليس في المفردات، لكن في تكوّن السرد الروائيّ منه نصًّا كاملاً. تدخلُ عالم الدجاج من خلاله، فتنتقلُ من الواقع إلى الدلالة، عبرَ السياق الخرافيّ اليرقى إلى البلاغيّ استعارةً خصوصًا، على ما أسلفتُ أعلاه!

عالمُ الدجاج في “العرّافة ذات المنقار الأسود”، هو بناء محمّد إقبال الروائيّ، قد أدعوه الخاصّ، لكن الوافي الشروط والمقوّمات العامّة. لن أغوصَ في دراسةٍ بنيويّة، لكن اسمحوا لي أشيرُ إلى مداميك البناء الروائيّ، الأهدى النصّ الجماليا الأدبيّة والعنصر التشويقيّـ الخلقَ في السياق حسَّ الحشريّة المعرفيّة للمادّة الروائيّة البين عيني القارئ…

زمانُ الروايةِ مرتبطٌ بالأحداث الدجاجيّة. الوحدةُ الوقتيّة محدّدة: الدورة التفقيسيّة. هي تجيب عن حشريّة معرفة عالم الدجاج من جهة، وتعطي المصداقيّة العلميّة للسياق الروائيّ، وفق الحساب الزمنيّ لمعيوش الدجاج الطبيعيّ من جهةٍ أخرى. العنصر المكانيّ الأساس هو المزرعة، تتألّف من مزابل. كأنّما يكوّن الروائيّ إطارَ العالم الدجاجيّ الخاصّ، خلوًّا من وجودٍ مكانيّ أو حياتيّ آخر، وغير رابطِه به البتّة. فلو استخدم مصطلح الخمّ أو “الصيرة”، لربَطَ عالم الدجاج بالإنسان اليقتنيه. في الوقت الذي جعلَ في السياق، العنصرَ البشريّ معاديًا للدجاج، عبر توصيفه مصطلحَي المذبحة والشوّاية عاملَي تصفية دجاجيّة مهروبٍ منها، أدخلها البشر لمصلحتهم ضدّ الوجود الدجاجيّ، “استعبادَه” وقتلَه لغاياته الغذائيّة.

أمّا الشخصيّات، منذ بطل الرواية أو الشخصيّات الرئيسة، فاستُعيرت لغالبها الصفاتُ البشريّة، خصوصًا الحكم والتحكّم بالرعايا… وغلب منطق الخير والشرّ، إلى المفهوم التربويّ والتنشئة البيتيّة والمدرسيّة على القيم والمبادئ، أو كيفيّة تفريغ المجتمع منها. شخصيّاتٌ طيوريّة وحيوانيّة تمثّل في أدوارها الطبقات البشريّة على اختلافها وخلافها. اجتماعيًّا وسياسيًّا وعقائديًّا…

يقدّم السياق النصيّ في روايتنا نمطًا حواريًّا غنيًّا، وظّفه الكاتبُ في انسيابيّة، تُنسيكَ أنّكَ في إطارٍ خياليّ. فالشخصيّات غير العاقلة في حواراتها الخاصّة بعالم الناس، تأخذكَ قارئًا في عنصرٍ تشويقيّ تنسى أنّكَ في سياقٍ استعاريّ مستدام.

لافتٌ أمرٌ يحيّرُكَ على امتداد الرواية. العنوان يذكرُ عرّافةً ذاتَ منقارٍ أسود، بينما المضمون منذ البداية يقدّم عرّافةً ذات المنقار القاني، حتى موتها مقتولةً في أواخر الرواية. تظهر بعدها تلكَ صاحبةُ العنوان في مشهدٍ واحد يختم النصّ بأفقٍ جميل ومشتهىً. طبعًا ذاتُ المنقار القاني مثّلتْ مُرسلةَ أهل الجنّ الخبثاء السيّئين. بينما الأخرى فتحت على نهايةٍ قيميّة مرجوّة. كأنّما المؤلّف أطلق على روايته عنوان الخير الأراده يغلب. أما تقرأون معي طينةَ الكاتب الحبيب، وغاياته المِداديّة الحميدة؟!

محمّد إقبال حرب، دعني يا حبيبُ أقف في محرابكَ معترفًا، أنّي أقرأكَ باندهاشٍ مبين. في مخزونكَ كمٌّ نوعيٌّ من مضامينَ راقية، وأسلوبيّة أدبيّة تعصى على ألي الدفق اليراعيّ. حسبُ أنواعكَ الأدبيّة مطليّةٌ بماء الذهب، المطعّم بمسكراتِ مدادٍ، نشوتُه تُعلي في فضاءات الجمال

د. عماد فغالي

اترك تعليقًا