:قراءة في كتاب “نبض الأزرق” للكاتبة عبير حسن علّام قدمها محمد إقبال حرب
ما سرُّ “نبض الأزرق” عنوانًا؟
نُدرك أن النبضَ هو المؤشّر الأهمّ للحياة في أي كينونةٍ وُجد فيها، لكن أيَّ نبضٍ يُلازم الأزرق؟ بل أيُ أزرق يَليقُ به النبضُ؟
هكذا كانت ردّةُ فعلي عندما أهدتني الكاتبة المُتألّقة عبير حسن علّام الكتابَ. فالأزرق الأكثر حضورًا على كوكب الأرض، إذ يكفي أن يكونَ لونَ السماءِ والبحرِ ويراه كلُّ حيّ. واللون الأزرق يحمل معاني وايحاءات تختلف وفق الشعوب والحضارات، ولا يضيرُه ألا يوجد له تعريف أو اسم في كثير من الحضارات. يوحي اللون الأزرق بالطمأنينة والإلهام كما التفاني والحنين، ويرمز إلى الاكتئاب والحزن في أميركا وبعض الحضارات حول العالم ويُشار إلى ذلك بالـ Blues أي الأحزان أو الاكتئاب، كما يُستخدم اللونُ الأزرقُ كتعويذة للشِفاء وطرد الشياطينَ، وفي الهندوسيّة يرتبِط اللون الأزرق بقوّة كريشنا الذي يجسّد الحُبّ والفرحَ الإلهي.
رغم أن الكاتبة لم تستخدم كلمة أزرق إلا ثلاث أو أربع مرات، وكلمة لازورد أي الأزرق السماوي مرتين، فإن ثيمةَ النُصوص مكحّلةٌ بالأزرق النابض وتتأرجحُ بين الحُبّ والحياة تارة ويلسعُها نبضُ الحُزنِ والكآبة تارة أخرى، بل نبضُ الخَيبةِ الصادمةِ لتغمُر الكتابَ أمواجُ نبضِ الأزرق وأطيافُه. مزيجُ الألمِ والبهجةِ أمواجٌ تتدافع في كينونةٍ حافلةٍ بمشاعرَ، ترتعدُ بعد الأمل الجارف، فتنزِف إبداعًا بلا دموع رغم قسوةِ الجُنون. قال الله في كتابه العزيز، آية 22 من سورة الانشقاق “فبشّرهم بعذابٍ أليم”. توحي البُشرى بالفرح والسعادة فتُشرَّع لها كلّ أبواب المشاعِر الإنسانيّة، لكنّ صدمةَ العذابِ المُفاجئة بعد وعدِ البشارة يزيدُ الألمَ أضعافًا، وهذا ما تصفُه الكاتبة بدقّة، ذلك أن الحُبَّ العظيمَ الجارِفَ الذي يكتنفُ بطلةَ نصوصها تجاه من وجدت فيه مزايا الحُبِّ والجمالِ والإخلاص إنما هو بُشرى لقلبها بالإطمئنان والاسترخاء. لكن عندما تُرخي دفاعاتِها وتفتحُ أبوابَ مشاعرِها تجدُ السُمَّ الزعافَ منتظرًا فتنقلبُ على عُقباها مختلّة التوازن. أما بطلتُنا التي خلقتها عبير فتحمل كبرياءً وقوةَ روح تتغلّبُ فيها على النبضِ الأزرق الهائج المائج.
في موجةِ حُبّ غامرةٍ تقول في صفحة 51 “في عينيكَ المجدُ الذي فات والمجدُ الآتي. في عينيك أنا… أنا كلّما فيَّ نامت عيونُ الصُبح عن اشتياقٍ أيقظَها الحنينُ”
تُرادفها موجة حُبٍ أخرى في صفحة 59
“يا أغلى الأسماء
أرسُم الوقتَ في غيابك
نقوشُك البربرية في روحي وعلى الجسد
كان يمكن لِصبحٍ أن ينتشيً بك”
هذه الكلمات النابضة بالحُبّ الجارف، المُكلّل بالأزرق المُعطّر بالحنين والتفاني لا يجدُ سبيلَه إلى الحرف إلا من قلبٍ عاشقٍ مُتيمٍ تبوحُ به كاتبةٌ ملهمةٌ.
والكاتبةُ العاشقةُ ذاتُها، تتمرّدُ في موجةٍ عاتية، تُزيل وشاحَ أنوثتِها سيفًا يُلملِم جراحَها وهي تقول بنفس أليمة مُتسائلة:
” هل خلعَك ثُغاء الضوء كحطّابٍ أولمَ القشَّ من سراب الحقيقة؟ ص 19
وتتبعُها بصرخة أخرى: “كيف يتحصّن عاشقٌ دامعُ الليل أمام طيفِ بابٍ أو دربٍ صدئة من قيحِ الغياب؟ ص 26
لكنّ إلهَ الحُبّ يبعثُ فيها نفحةَ حنين تُعالج بها نفسَها بترياق الحُبّ قائلة وهي ترُدّ على حبيبها وهو يوقظُها من رُقاد:
“قومي، كفاك نومًا… وفيم يُفيد لغير لُقياك قيام؟”
في نص “حديث الليل” صفحة 23 أذهلني وصف الحُبّ من الطفلة روجدا واصفةً والدتَها وهي تسير مع والدها “كان قلبُها بحجم خَطواته يدقُّ بصدى وقع قدميه على الأرض”.
هذا الحُبّ الموروث، الذي تعلّمته روجدا عمليًا وليس تواترًا استثمرته في من عشقت حتى أصابها الهُيام فكتبت:
“سأفقأ عينَ كلّ نهار يُغمِض جفنَه على ليلٍ بدونك وبدوني في ديمومةٍ واحدة”. ص 43
لكن لم يطُل زمنُ الحُبّ والحنين بعد عاصفةٍ جاشها الأزرق فطعَن كينونَتها لتتمرّدَ أُنثاها واصفةً ما بعد العاصفة “ورائحةُ نوافذِ روحي سوداءُ كشتاءِ عجوزٍ عقيم”. ص 57
يا للألم الذي يُدمي قلبَ أُنثى عندما تكتشِف أن الحبيبَ المُثقّفَ الشاعرَ لا يكترِث بعقلها ولا يُقدّر شخصيّتَها، شعرَت بدونيّتِها في نفسه، فتمرّدت لذاتها ولكلّ أُنثى… وخطّت ص 44:
أنت يا سيّدي لا تريدُ أديبةً ولا امرأةً كاملة حُرة. أنت يا سيدي كلُّ ما تريدهُ نعجةً.
من أقسى ما ورد في الكتاب، بل ما باحت به الكاتبة على لسان بطلتِها، هو الألمُ المُضاعفُ الذي يسكُن كلَّ أُنثى في هذا الوطن:
“تمنيتُكَ وجهَ وطني، لكنّ الوطنَ أيضًا قاتلٌ” ص 55
قاتلان يتنافسان على الفوز بروحها، في صراع يبدو كالترغيب والترهيب لكنه في الحقيقة رسالةٌ واضحة، ببلاغةِ حرفٍ وشاعريةٍ أخّاذةٍ تعلنُ فيها الكاتبةُ عن حقارةِ الوجودِ في ظلّ استغاثةٍ لا يسمعُها أحد. حبيبٌ يتزيّنُ بالجمال وطلاقةِ اللسان يُخفي سكّينًا خلفَ ظهره للطعن متى استطاع إلى ذلك سبيلُا، ووطنٌ يقتُل ويهجّر من لم يمُت في وطنٍ يُخفي سكاكينَه خلفَ حضارةٍ أفَلت.
أخيرًا، أباركُ للكاتبة عبير حسن علام على بلاغتِها في السّرد وجرأتِها في طرح مسألة تسونامي “نبض الأزرق” في سفْرٍ بديعٍ.
محمد إقبال حرب