أطلع من نُقرة اقع في دُحديرة


يقول المثَل المصري “أطلع من نُقرة أقع في دُحدِيرة”. أُدرك أنَّ كلمة نُقرة تعني حُفرةً صغيرةً، لكنني لم أفهم معنى كلمة دُحديرة بالضبط فاستعنتُ بالمعاجِم لأجد ضالَّتي في كلمة دحدَر ومِعناها: تدحرج، اندفَع من مكانٍ عالٍ.

أدركتُ أنَّ المقصودَ هو الخُروج من حُفرة صغيرة والسُّقوط المُدوي في حُفرةٍ أكبر من النُقرة. وأدركتُ أنَّ هذا المثَل ينطبِق عليَّ وعلى كلِّ مُواطِن عربي، فما أن يخرُج أحدُنا من مُصيبةٍ حتى يقعَ في أسوأ منها رَغم كلِّ الدُّعاء واللَّطم والبُكاء أمَلًا بالرَّجاء المُقبل من علياء.

ما أكثرَ الحُفر وما أقسى القدَر الذي نؤمن به، ما أكثرَ التدحدُر بين النُقَر والحُفَر الذي وضعناه في خانة القضاء والقدَر. عندما كنتُ صغيرًا وجدتُني في نُقرة أسماها بني يعرب “القضيَّة الفلسطينيَّة”. لم أكن أعلَم بأنَّ هذه النُقرة إن هي إلا حُفرة شاسِعة واسعة ولم أكن أعلَم أيَّ شيء عن باقي الحُفر التي يحتفظ بها صاحبُ السُّلطان، خزائنَ انكسارٍ ومذلّةٍ، أخفاها مع سبق إصرارٍ وتخطيط كما أخفاها والدي والمُجتمع جهلًا. لم يذكُر أحدٌ حُفر الاستعمار والجَّهل والتردِّي، حُفر الانحطاط والتخلُّف والتفرقة. ربما كانت نُقرًا برأيهم، وربما لم يُسعفهم الذَّكاء على إدراك ماهيَّة النُقَر والحُفَر التي تُحيطُ بهم على مدى واحات الأُمَّة الشَّاسِعة الواسِعة. استساغوا العيشَ في نُقرهم فلم يحاولوا ردمَها أو الخُروجَ منها عملًا بالمثل المأثور “الشَّيطان الذي تعرفُه خير من الذي لا تعرفه”. ازداد الطُّغيان وتحرَّك الشَّيطان الذي يعرفون فساقَهم إلى أعلى مغرِّرًا بالنَّجاة فسقطوا دحدرةً، سُقوطًا أعمق وأعتى. سقطوا على رؤوسهم ففقدوا بقايا حواسِهم. توسَّعت الحُفر وزادت عُمقًا مع التغيُّرات الكثيرة التي عصفت بكينونة العالم واضطر أصحاب الحُفَر والنُقَر إلى النُّزوح تباعًا إلى حيث المُتَّسع لأَجيالٍ تبحثُ عن حيّز من المذلَّة في عصر الهزائم. حُفَر جديدةٌ أسموها وطنًا ومخيَّمًا وتغريبة، حُفر الهزائم المُتتالية في عصر الحُكَّام المُستبدِّين والطُّغاة المُقدّسين، حُفَر أرضيَّتُها هزائم، هواؤها جهلٌ وعمالة وخيانة، ماؤها خِداعٌ وبهتان بأمر السُّلطان.

وجدتُني في حُفرة لا أدري كينونتَها، فالمعروض فاق قُدرتي على التمييز بين السيِّئ والأسوأ. بما أنَّ قُدرتي على القفز والتدحرُج باتت هزيلة وسنِّي لا يسمح بالتدحرُج كثيرًا، آليتُ الخنوعَ والبيات حتى أحظى بإحدى النهايتين الفناء أو الممات. لكن ضميري اللَّعين أصرّ على التحدّي فتسلَّقتُ جُدران حُفرتي لاستكشاف مُتغيّرات العالم من حولي. كان السُّقوط مدويًا لم يسمح لي باستقطاع بعض الوقت لآخذ “سيلفي” أخلاقي وأدبي لمُحيطي الجديد، بل لسِجني الأكبر حيث سأموت وابني سيكبُر. لم أستطع تسجيلَ بقايا ضميري وهو يرثي كينونتَه قبل الهوان الأزلي فسقطتُ سُقوطًا مدوِّيًا لم يكترث له أحد في قاع جديد حدَّدته العولمة ونفَّذه عميلٌ جديد اسمه نخَّاس أوطان.

لا أدري لماذا أكتُب تجربتي التي هي نَسخة طبق الأصل عن تجارب الملايين الفخورين بحُفرهم، المتسكّعين في الحضيض بحثًا عن فُرصة عمالة ترفع من شأنهم عند الجزّار العتيد. أكتُب عن اغتيال طُفولتي وآمالِها، عن حُفر الوطَن الشاسع الواسع التي تدحدرت إلى سحيقها، حُفر تحمل أسماء دُول، بعضها أصل التاريخ والبعض الآخر نُقَر هجينة تطفو وتزول حسب رغبَة المُستعمر في قُبور جماعيَّة اسموها “دُولًا وممالكَ” تحمل راية صمَّمها سفَّاحٌ مُستعمِر. راياتٌ أصبحت شِعارَ مزارِع الأُمَّة، حُفرُها عنصُريَّة شامِلة، فقرٌ وطائفيّة، جهلٌ وكراهيّة. حُفَر الازدواجيَّة الشخصيَّة التي تنعم بالانتحار الجماعي قربةً إلى غازٍ يعدُهم بالموت الرَّحيم. حُفَر تزدادُ عُنفًا وصَخبًا وقتلًا في ذُروة عواصِف الكراهيَّة فيما بقيت حُفرة النكبة أُمّ النكبات، بقيت ولم يكترث أحد لقُدسيَّتِها فبيعت عشرات المرَّات إلى أن وصل التاجرُ الأعظَم بِسوطِه الذي لا يرحم وحاز عليها من دون عناء. اشتراها ذاك “الكاوبوي” البذيء بكرامَةِ الأُمَّة مُكلَّلًا بخِيانة العُربان.

عبر سني عمري زُرتُ حُفَر الوطَن العربي، بل دُفعت إليها دفعًا وكأنَّني في برنامج سياحي يُرشدني إلى غرائبِ الكوكب. أليست من عجائب الدُّنيا أن تُفرِز حُفر الإيمان أعلى نسبة كراهيّة في العالم؟

أليس من غرائب القدَر أن ترى النَّاس زرافاتٍ عند دور العبادة فيما تزدادُ نِسب الجرائم والاغتصاب؟ اغتصابُ البشَر والأرزاق على حدٍّ سواء. حُفَر تعِجُّ برجال دين وأدعياء تفشَّى فيها ومنها التزوير والتدليس في مناحي الحياة، الامتحانات والانتخابات كما تزيَّنت بالزِّبالة والقذارة

يقول المثَل المصري “أطلع من نُقرة أقع في دُحدِيرة”. أُدرك أنَّ كلمة نُقرة تعني حُفرةً صغيرةً، لكنني لم أفهم معنى كلمة دُحديرة بالضبط فاستعنتُ بالمعاجِم لأجد ضالَّتي في كلمة دحدَر ومِعناها: تدحرج، اندفَع من مكانٍ عالٍ.

أدركتُ أنَّ المقصودَ هو الخُروج من حُفرة صغيرة والسُّقوط المُدوي في حُفرةٍ أكبر من النُقرة. وأدركتُ أنَّ هذا المثَل ينطبِق عليَّ وعلى كلِّ مُواطِن عربي، فما أن يخرُج أحدُنا من مُصيبةٍ حتى يقعَ في أسوأ منها رَغم كلِّ الدُّعاء واللَّطم والبُكاء أمَلًا بالرَّجاء المُقبل من علياء.

ما أكثرَ الحُفر وما أقسى القدَر الذي نؤمن به، ما أكثرَ التدحدُر بين النُقَر والحُفَر الذي وضعناه في خانة القضاء والقدَر. عندما كنتُ صغيرًا وجدتُني في نُقرة أسماها بني يعرب “القضيَّة الفلسطينيَّة”. لم أكن أعلَم بأنَّ هذه النُقرة إن هي إلا حُفرة شاسِعة واسعة ولم أكن أعلَم أيَّ شيء عن باقي الحُفر التي يحتفظ بها صاحبُ السُّلطان، خزائنَ انكسارٍ ومذلّةٍ، أخفاها مع سبق إصرارٍ وتخطيط كما أخفاها والدي والمُجتمع جهلًا. لم يذكُر أحدٌ حُفر الاستعمار والجَّهل والتردِّي، حُفر الانحطاط والتخلُّف والتفرقة. ربما كانت نُقرًا برأيهم، وربما لم يُسعفهم الذَّكاء على إدراك ماهيَّة النُقَر والحُفَر التي تُحيطُ بهم على مدى واحات الأُمَّة الشَّاسِعة الواسِعة. استساغوا العيشَ في نُقرهم فلم يحاولوا ردمَها أو الخُروجَ منها عملًا بالمثل المأثور “الشَّيطان الذي تعرفُه خير من الذي لا تعرفه”. ازداد الطُّغيان وتحرَّك الشَّيطان الذي يعرفون فساقَهم إلى أعلى مغرِّرًا بالنَّجاة فسقطوا دحدرةً، سُقوطًا أعمق وأعتى. سقطوا على رؤوسهم ففقدوا بقايا حواسِهم. توسَّعت الحُفر وزادت عُمقًا مع التغيُّرات الكثيرة التي عصفت بكينونة العالم واضطر أصحاب الحُفَر والنُقَر إلى النُّزوح تباعًا إلى حيث المُتَّسع لأَجيالٍ تبحثُ عن حيّز من المذلَّة في عصر الهزائم. حُفَر جديدةٌ أسموها وطنًا ومخيَّمًا وتغريبة، حُفر الهزائم المُتتالية في عصر الحُكَّام المُستبدِّين والطُّغاة المُقدّسين، حُفَر أرضيَّتُها هزائم، هواؤها جهلٌ وعمالة وخيانة، ماؤها خِداعٌ وبهتان بأمر السُّلطان.

وجدتُني في حُفرة لا أدري كينونتَها، فالمعروض فاق قُدرتي على التمييز بين السيِّئ والأسوأ. بما أنَّ قُدرتي على القفز والتدحرُج باتت هزيلة وسنِّي لا يسمح بالتدحرُج كثيرًا، آليتُ الخنوعَ والبيات حتى أحظى بإحدى النهايتين الفناء أو الممات. لكن ضميري اللَّعين أصرّ على التحدّي فتسلَّقتُ جُدران حُفرتي لاستكشاف مُتغيّرات العالم من حولي. كان السُّقوط مدويًا لم يسمح لي باستقطاع بعض الوقت لآخذ “سيلفي” أخلاقي وأدبي لمُحيطي الجديد، بل لسِجني الأكبر حيث سأموت وابني سيكبُر. لم أستطع تسجيلَ بقايا ضميري وهو يرثي كينونتَه قبل الهوان الأزلي فسقطتُ سُقوطًا مدوِّيًا لم يكترث له أحد في قاع جديد حدَّدته العولمة ونفَّذه عميلٌ جديد اسمه نخَّاس أوطان.

لا أدري لماذا أكتُب تجربتي التي هي نَسخة طبق الأصل عن تجارب الملايين الفخورين بحُفرهم، المتسكّعين في الحضيض بحثًا عن فُرصة عمالة ترفع من شأنهم عند الجزّار العتيد. أكتُب عن اغتيال طُفولتي وآمالِها، عن حُفر الوطَن الشاسع الواسع التي تدحدرت إلى سحيقها، حُفر تحمل أسماء دُول، بعضها أصل التاريخ والبعض الآخر نُقَر هجينة تطفو وتزول حسب رغبَة المُستعمر في قُبور جماعيَّة اسموها “دُولًا وممالكَ” تحمل راية صمَّمها سفَّاحٌ مُستعمِر. راياتٌ أصبحت شِعارَ مزارِع الأُمَّة، حُفرُها عنصُريَّة شامِلة، فقرٌ وطائفيّة، جهلٌ وكراهيّة. حُفَر الازدواجيَّة الشخصيَّة التي تنعم بالانتحار الجماعي قربةً إلى غازٍ يعدُهم بالموت الرَّحيم. حُفَر تزدادُ عُنفًا وصَخبًا وقتلًا في ذُروة عواصِف الكراهيَّة فيما بقيت حُفرة النكبة أُمّ النكبات، بقيت ولم يكترث أحد لقُدسيَّتِها فبيعت عشرات المرَّات إلى أن وصل التاجرُ الأعظَم بِسوطِه الذي لا يرحم وحاز عليها من دون عناء. اشتراها ذاك “الكاوبوي” البذيء بكرامَةِ الأُمَّة مُكلَّلًا بخِيانة العُربان.

عبر سني عمري زُرتُ حُفَر الوطَن العربي، بل دُفعت إليها دفعًا وكأنَّني في برنامج سياحي يُرشدني إلى غرائبِ الكوكب. أليست من عجائب الدُّنيا أن تُفرِز حُفر الإيمان أعلى نسبة كراهيّة في العالم؟

أليس من غرائب القدَر أن ترى النَّاس زرافاتٍ عند دور العبادة فيما تزدادُ نِسب الجرائم والاغتصاب؟ اغتصابُ البشَر والأرزاق على حدٍّ سواء. حُفَر تعِجُّ برجال دين وأدعياء تفشَّى فيها ومنها التزوير والتدليس في مناحي الحياة، الامتحانات والانتخابات كما تزيَّنت بالزِّبالة والقذارة فيما يصدَح الخطيب “النظافة من الإيمان”

كم هو عدد الحُفَر؟

متى سننتهي من التدحدُر من هوَّة إلى سحيق، من نارِ الجَهل إلى سعير الفناء؟

كم هو عددُ السُّجون؟

كم هو عددُ القتلى؟

كم هي نِسبةُ المُتعلِّمين الذين “يفكُّون الخطّ”؟

كم هو عددُ الشَّهادات المُزوَّرة التي يتبوَّأ أصحابُها أعلى المراكز؟

كم هو عددُ الساطين على المال العام من دون حِساب؟

كم هو عددُ الأُدباء والمُثقّفين الذين يتسوَّلون لُقمة العيش؟

بل كم هو عددُ المرضى الذين ماتوا قبل وبعد افتضاح عجزهم عن شِراء الدَّواء والتآخي مع البَلاء؟

كم حُفرةٌ على المُواطِن أن يرتاد قبل أن يتوبَ عليه طُغاة البلاد ويقتُلوه ليوسِموه شهيدًا بوشاحٍ يُهدى إلى ورثته؟

ألسنا كلُّنا شُهداءَ هذا العصر؟

إذًا لماذا العنصُريَّة؟ أقتُلونا وارحمُونا.

ها أنا أكتبُ من حُفرةِ الظَّلامِ الموسومةِ لشخصي الكريم، بل الذي كان كريمًا يوم ولادتي بمِداد الأمَلِ المفقودِ على صفحةٍ تلقَّفتها زبانيَّةُ المُستبدّ ورمتها في نُقرةٍ جديدةٍ دَحدرة الصَّلد من علياء في بِدعةٍ جديدة من إبداعات العولمة.

لقد أصابتني موجةٌ من ضِيق النفَس فرائحةُ النَّفط لا تُناسب إنسانيَّتي في عالم أخلاقُه غثيان، مناقبُه خيانة، مشانقُه صناعةٌ ماسونيّةٌ تخنُق الوطَن بسلاسة السُمّ وعُنف الفناء تحت رايةِ حاكِم مُطيع يركَع ساجدًا عند صرحِ
المُستعبِدين.

من كتاب “الفكر عورة” صفحة 29 

2 comments

  1. مقال في غايه الروعة يحكي واقع كل العرب هذا الوقع نحن من صنعناه بخضوعنا وسكوتنا ولن تصحى يوما هذه الأمة ما دامت الأم نائمة

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا