قراءة في رواية محمد اقبال “هنا ترقد الراوية” – محمد صالح رجب
كثيرة هي تلك النصوص التي تناولت جرائم الشرف في المجتمعات الشرقية، لكن القلة منها استطاعت أن تترك أثرا، ومن تلك القلة رواية “هنا ترقد الغاوية” للكاتب محمد اقبال حرب الصادرة في طبعتها الأولى عن الدار العربية للعلوم ناشرون العام 2015، محمد اقبال كاتب امريكي الجنسية من أصل لبناني عاش في بيئات متعددة لكل منها معتقداتها وتقاليدها المختلفة، الأمر الذي ساهم كثيرا في تناول تلك القضية بشكل أقرب الى الحياد ومن ثم كان التشخيص أقرب الى الصواب، الأمر الذي يفتح أفقا لعلاج قضية تستنزف الأعراض وكثيرا من الدماء وتعيق المرأة عن أداء رسالتها ودورها تجاه الأسرة والمجتمع.
ما يميز القص الجيد ليست الحكاية في ذاتها وانما أيضا طريقة الحكاية، وما يعنينا في النصوص ليس فقط ما يكتب وانما ما بين السطور، ما يعنينا هو ذلك النقص الذي يتركه الكاتب عن عمد ليس فقط للإيهام بمزيد من الواقعية حيث لا شيء كامل، وانما ايضا لتحفيز القارئ لملء تلك الفراغات، مما يسمح بتعدد القراءات والتأويلات بتعدد خيال وثقافات القراء. وهذه ما فعله الكاتب بداية من عتبة النص الأولى ” هنا ترقد الغاوية”، فلم يُعْرف أكان ذلك دعوة للغواية أم تشهير وتحقير لغاوية ومهنتها. فمفردة ” ترقد” قد تعني النوم وقد تعني الوفاة وفي كليها استسلام، و”هنا” اسم إشارة للقريب يحدد المكان. فالمعنى ـ إذن ـ قد يكون اشهارا بالإخبار عن مكان قريب لغاوية مستسلمة مهيأة لمن أراد الغواية، وقد يكون تشهيرا بغاوية ومهنتها من خلال الاخبار عن مكان قبرها. ترك الكاتب المتلقي في حيرته حتى أفصح عن ذلك على لسان صابرين التي قالت:” أخاف أن أموت فيكتب الناس على ضريحي “هنا ترقد الغاوية”، غاوية تحيك َغي كالأرملة السوداء”. ثم تتدارك صابرين وتقول امعانا في التشهير والاحتقار: “لا بل سيكتبون “هنا ترقد الزانية”. نعم… لن يكتبها شخص واحد، بل كلهم سيكتبون معه بإفكهم “هنا ترقد الزانية”.
وكما كان عنوان النص لافتا كانت عناوين المقاطع ” الفصول” معبرة وان لم تكن على ذاك القدر من الابداع والابتكار، فالنص الذي اكتنفه كثيرا من الغموض في فصوله الأولى حتى انه لم يذكر اسم شخصية واحدة باستثناء “أمل” التي قتلت لجريمة شرف، تخل عن غموضه في المقطع المعنون بـ ” جريمة شرف” وهو المقطع الذي تلا مقطع” ذات الخمار” وكأن الخمار كان ساترا وحاجبا وسببا لهذا الغموض.
لم تخلو الرواية من الاسقاطات السياسية لتذكرنا بكتابات نجيب محفوظ، كما أن موضوع الرواية قد تم تناوله من قبل في العديد من الكتابات منها “دعاء الكروان” لطه حسين، لكنه كان أقرب ما يكون لقصة ” حادثة شرف” ليوسف ادريس. هذا التناص في الرواية لم يقتصر على تلك الكتابات بل امتد إلى تناص ديني، ظهر في أكثر من موضع فأضفى هالة من القدسية والجدية على النص وموضوعه وأضاف جمالا إلى جمال لغته التي تميزت بالشاعرية.
تلاعب الكاتب بالزمن بمهارة فقدم وأخر وتعامل مع التشوهات الناجمة عن اختلاف زمني القصة والخطاب وتنقل بين الماضي والحاضر وأحيانا المستقبل، استخدم كثيرا تقنية الاسترجاع عند اجترار الذكريات على ألسنة شخصياته، كما استخدم تقنية الاستباق كما في حديث البحر الى هنادي والذي جاء فيه:” هو يعشق راحلة قرأت على قلبه سحر من هوى، فهوى معبد قديم طقوسه أليمة فبات مسحورا. ستفك قيده ذات يوم عابرة غابرة يرميها عليه القدر قبل الرحيل.“
اعتمد الكاتب تقنية السرد بضمير الغائب وكان السارد العليم حتى بما يدور في خلجات النفس وان ترك مساحات كبيرة للشخصيات لتعبر عن نفسها بحرية، لكن السارد قد تخلى لحظيا عن وظيفته السردية مفسحا المجال “للكاتب” للتدخل والتعليق كما جاء في هذا الاقتباس: ” قانون الغاب الذي جعل منه سيدا على نساء الوطن كما هو حال كل رجل مهما كان ضعيفا، سطوة على نساء هن أمهات واخوات ومدرسات وعالمات.. هن من يرفعن شأن أمم ويضعن أخر بما ينشئون من أجيال”.
اعتنى الكاتب بشخصياته من حيث البنية الجسدية والمظهر الخارجي وكذا جوانبها النفسية وحالتها الاجتماعية وظهرت أثر البيئة الشرقية في الشخصيات، فالمحاضر عن الحريات لا يقبل بأدنى تحرر لزوجته، وصابرين المتدينة رغم خفوق قلبها بالحب الا انها لم تظهره خشية من المجتمع، هذه الخشية التي ظلت هاجسا يطاردها رغم عفتها ودفعها للقول بأن الناس سوف تشير الى قبرها وتقول “هنا ترقد الغاوية”.. بل هنا ترقد الزانية”.. سيقولون إنها سبب الغواية، ولولا انها فتحت له الباب ما تجرأ على الدخول، يقولون ويقولون وهي طاهرة عفيفة فماذا لو ارتكبت الجرم.
ولا يمكن لنا أن نغفل دلالة أسماء الشخصيات، وعلى سبيل المثال “صابرين” التي ظلت صابرة على الأذى الذي طالها نتيجة جريمة هي فيها الضحية. “تامر” ذلك الاسم الحداثي لتلك الشخصية التي بدت متحضرة أملا في الحصول على الجنسية الامريكية لكنها تآمرت معهم باتهام شقيقته دون سند وسعت للتخلص منها. ” أمل” التي قتلت نتيجة جريمة شرف وكان كأنما “قتل للأمل”. هنادي وهذا التناص مع أحد أشهر ما كتب عن جرائم الشرف في رواية ” دعاء الكروان”، ” سامح” الذي لم يتسامح مع نفسه وبيئته ولم يعفو عن امه ويلتمس لها العذر، وظل يحمل الكراهية ويصر على تكرار جريمته.
وغير بعيد عن الشخصيات يحسب للكاتب أنه وعلى خلاف لما هو سائد الآن من زيادة عدد الشخصيات لزيادة حجم وعدد صفحات الروايات فإنه اكتفى في روايته بعدد محدود من الشخصيات الأمر الذي يساعد كثيرا في عدم تشتت القارئ.
ويبقى الجانب النفسي في الرواية من أهم ما ميز الرواية، فالحادثة تسببت في عقدة نفسية لبطلة الرواية وظلت تعاني منها حتى المشهد الأخير الذي انتهى بمقتل ” حوده” والذي كشف هو الآخر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة عن عقدته النفسية التي جعلت منه ذئبا بشريا. الاستعانة بأطباء نفسيين جعل من العمل مرجعية موثوق بها في مواجهة الحالات المشابهة.
“هنا ترقد الغاوية” نص كاشف وفاضح لمجتمع ذكوري يرى في المرأة شيطانة تمارس الغواية، ويعاقبها كونها امرأة وإن بطرق اختلفت عن الوأد الذي كان يمارس بالجاهلية، أصبح يستباح جسدها وتنتهك كرامتها ويسقط كبرياؤها وتجبر بعد كل اهانة لها على الركوع لزوجها طلبا لرضاه، كما تفضح زيف المجتمع وهذا التدين الظاهري فالزوج الذي يحاضر عن الحريات يبطش بزوجته لأي حركة تحرر بسيطة. النص يطرح سؤالا مفاده: ماذا نريد من امرأة منكسرة منتهكة، ذليلة؟ هل نتعشم أن تربي أجيالا أسوياء؟
محمد صالح رجب