إستنباط من مقالة: الوارث والموروث، وعيٌ وطقوس

بقلم أ.د. أميرة عيسى
كلمّا كبر وعي الانسان كلما ازداد خوفه. هذه الحقيقة التي توصل اليها الكاتب المفكر د. محمد اقبال حرب في مقالته الفلسفية ” الوارث والموروث، وعيٌ وطقوس”، شعور انتابه، هو اشبه بغاز من نوع جديد يشعر به يتنقل عبر خلاياه، هو لا يسبب ألمًا ولكن يشعر الانسان وكأن عدوًا يعدّ عليه خلاياه. تنبّه الكاتب الى هذا الوضع عندما اصبحت الهجمة شرسة، سيطر فيها هذا “الطفيلي” على كلّ انظمة حياته لدرجة انه خرج من دائرة ودخل في مرحلة بيات زماني ثم استفاق وعاد الى الحياة من جديد ولكن في حيواته البعيدة، في “عمق ذاكرة عاشت في ألف ألف بقعة من هذا الكوكب” ذاكرة عميقة قد توارثها كلّ كيانه، ولقد سمع صوتًا ينطلق من كلّ خليّة في كيانه: أنتَ الوريث، وريث كلّ هذه الحيوات التي عاشتها روحكَ من قبل، وهنا يعيش بذاكرة “تعود الى يوم كان البشر بضع خلايا متلاصقة عند شاطئ لم يعد موجودًا”، وهكذا انصهر الكاتب مع ذاكرة الوجود في كيان واحد بعد ان شعر بتفكك جيناته، وها هو يرى في أناته الغابرة “وجوه شاحبة، فتية وهرمة، لذكران وإناث، همجية ومتحضرة، بسيطة ومعقدة، عبر أمكنة غابرة مندثرة، ومستحدثة فتيّة”.ولقد اكتشف الكاتب انه كان في الغابر “إنسانًا قمّامًا، امرأة تُغتصب ورجل يَغتصب، عبد وسيد بل حيوان أليف وآخر همجي متوحش”ولقد اكتشف أيضًا ان الشئ الوحيد الذي رافقه في جميع حيواته هو الخوف، هذا الخوف الذي يخجل الانسان من اظهاره بالرغم من كونه رفيقًا قديمًا له: “كان الخوف مشاعًا في البداية، تعرفت عليه مع ظلي في اعمق ذاكرة ادركتها”، فاول الخوف، كما يقول الكاتب، كان من ظله، فالخوف في البدء كان مسموحًا: الخوف من حيوان وحشي، من الحرائق، الفيضانات وغيرها من كوارث الطبيعة التي لم يستطع الانسان ان يسيطر عليها.ويتساءل الكاتب إن كان احساسه هذا هو قبس من الجنون في موجة خيال عاصف ام هي حالة انصهار مع ذاكرة الوجود في كيان واحد بعد ان انفكت شيفرات جيناته، فيقول:”أشعر اني عشت آلاف الحيوات ومتّ مثلها، أشعر بافتراسي، قتلي، بازواجي واولادي، بسحر الاماكن وعظيم المخلوقات التي اندثرت وتحولت عبر السنوات”.وبعد سفره عبر مئات الاجساد التي توارث بصمتها، استطاع ان يجزم بأن الخوف هو كان سيد الموقف، فعبر آلاف السنين لم يصل للبشرية “وباء الخوف”، وعندما غزاها تبؤا “سدّة الالوهية”.

الخوف بالنسبة للكاتب هو الاله الاوحد الذي كان يهاجم البشرية عبر العصور، وكانت الكهوف هي الملاذ الوحيد للانسان، ثم اكتشف النار وهو الاله الذي رافق البشرية لآلاف القرون، خاف الانسان النار فعبدها ليسترضي اله النار، “كم من آلهة عبدتها البشرية ثم قوضت المعابد عندما استطاعت ان تنقلب عليها”، يؤكد الكاتب، بالنسبة له بأن رموز الخوف لا تحصى، ولقد حولها الانسان الى آلهة تكرهنا ولا نعرف ماذا نقدم لها من قرابين لكي ترضى علينا. ومع بداية التجمع السكاني اصبح الخوف عارًا خاصة للذكر واصبح القتل فخرًا.ويصور لنا المفكر مسرحية بطلاها الانسان والخوف، وفي حوار محتدم يؤكد الخوف بانه بالرغم من انه العدو الازلي للانسان الا انه قد قدم الكثير للبشرية، وعند سؤاله عن هويته، يقول: “انا المحفز لارادتك، انا من يشعل جذوة افكارك، خوفك من النار علمك خلقها والسيطرة عليها الى حدّ كبير، الخوف من الجوع علمك الزراعة، وخوفك من الحيوانات اعطاك مفاتيح المدن”.ويؤكد الكاتب انه بعد مراجعة الحوادث عبر عصوره البائدة، اكتشف ان الخوف يغير اسلوبه مع تطور الحضارة الانسانية، فنوعية الخوف قد اختلفت بالرغم من ان مشاعر الخوف هي واحدة عبر العصور. فالخوف هو ذاك “الطفيلي الذي ادمنت البشرية عليه” لذلك فان الانسان يخلق الخوف من جديد الف مرة في اليوم وهو يسعى اليه تمامًا كما يسعى المدمن الى تاجر الكوكايين. فبني البشر، يضيف الكاتب، يعشقون الخوف ويربون اولادهم على محبته وذلك بتخويفهم وتهديدهم وضربهم. ويؤكد المفكر على لسان الخوف قائلًا: “انا الهكم الحقيقي…انتم اعطيتموني عناوين كبيرة هي اديانكم التي تمجدونها، انتم تعبدون الله لانكم تخافون جهنم او دورات الحياة في ديانات اخرى”. والخوف في حاضرنا يتمثل بحكامنا الذين نخافهم فيستعبدوننا، فقبل الخوف، يؤكد الكاتب بان الانسان لم يكن يعي ايّ خطر سيداهمه فيعيش اللحظة تمامًا كما الحيوان ومع تطور الوعي يزداد تحكم الخوف بالانسان ويهزمه. وتنتهي المسرحية بصفقة يعقدها الخوف مع البشرية يطلب فيها ان ” تهدموا كل صروح الكذب وتعلنوني إلهًا أزليًا فانزوي في باقي المخلوقات ليتمكن منها الخوف فتبتعد عنكم”، وختم الخوف محاضرته بانه سيسلب الامن والامان من عمق وجود البشرية “ليقتلكم القلق وتستولي عليكم رجفات الخوف”.وينتهي المشهد والكاتب متمسكًا بالبكاء خائفًا من شئ اقتحمه وبدأ ينهش ذكرياته “يقضم حيواتي متلذذًا بعودتي الى حيث لا وعي ولا ادراك”….ويبقى القارئ مبهورًا بهذا الكم من العنف والخوف والرغبة في الثورة على الخوف وكل مظاهره القديمة والحديثة من عوامل طبيعية الى اديان ترتدي لباس الترهيب والخوف، الى حكام يرتدون قناع الرعب والتهديد ويبقى القارئ هائمًا في عالم من عدم الامان، مغمض العينين لا يعرف اي طريق يسلك، حائرًا تتلاطمه الافكار ويلذعه تطور الوعي، فنراه بحيرة من امره، هل يعود الى عدم الوعي والراحة وعدم الخوف ام يجابه خوفه ويزيل كل ما يهدد امانه؟ سؤال يبقيه الكاتب معلقًا في فكر القارئ المندهش، العاجز عن التغيير.

لا بد من التنويه باسلوب الكاتب “الهولوكستي”، الذي يصور لنا الافكار مجسدة بصور وكلمات تبعث الرعب والرهبة، واعطي لهذا مثلًا، صورة ذاك الطفل الذي يصوره الكاتب مرتعبًا يبكي ويصرخ امام جثة والدته او بقايا اوصال والده، وذاك الرجل المنتحب امام نفسه وهو يحترق، يقول”اصرخ اولول دون مجيب، جسدي يذوب، تبتلعه النار، بينما الباقون بمن فيهم زوجي واولادي يركضون هربًا من النار” ، ولا بد لنا ان نستحضر هنا صورة يوم الحساب حيث لا ينفع زوج ولا بنون……..هذه بعض من الافكار التي استنبطتها من مقالة الدكتور محمد اقبال حرب “الوارث والموروث، وعي وطقوس”، مقالة يصعب الاحاطة بها في دراسة قصيرة لما فيها من عمق الفكر والعودة الى اعماق الروح ومرافقتها في شتى دروبها وتقلباتها وتطور وعيها، وانا وان قلت ما قلته في هذه المقالة اؤكد على عدم احاطتي بكل مكنوناتها، فالدعوة مفتوحة لكل من اراد المزيد من الاستنباط والاضافة

.أ.د. أميرة عيسى

2 comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s