ما زال يتسلق وتيرة الجهل حتى تعب من الصعود على أغصان التردي الحضاري. أرَّقته حرارة المعرفة يوم سطعت مؤرِّقة بيات عقله الأزلي فبات يكره العلم والمعرفة حتى أصبح سفيهاً تهتاراً. كانت حرارة الشمس ساطعة ولهيب المعرفة يكتز الأرض يوم نظر من علٍ إلى البعيد. رأى شيخاً على قارب معرفة يُجدِّفه في بحر من العلم حتى استقر عند جزيرة أشجارها ملاحم وثمارها معلقات تنتظر شاعرًا ملهمًا يأتي من عمق الزمان.
أرَّقه ما رأى وخاف أن يسطع نجم العلماء. لحق به على شراع جهله كي يكسر شوكته ويقلل من عزيمته. وحيث إنه ما تعود الإبحار في بحار العلم والمعرفة أخذه دوار الحروف في غيبوبة. وما أن صحا حتى شعر بصداع أرّقه وجوع داهمه. تحركت خلايا جهله والتهبت مشاعره الحيوانية حتى ارتفعت وتيرة جوعه إلى جهل معتق في خوابي التخلف. مد يده إلى السماء قابضاً على شهب شيطاني… رمى شجرة القصائد بنار الجهل ليلتقف ثمرة علم دسمة سقطت من علياء، التقمها ثمرة تسد جوعه لكنها لم تكن كما يحتسب. لم يكن يدرك الفرق بين غذاء الروح والجسد فالتقمها فمه ماضغاً إياها بلعاب حمقه فزادته غماً على جوع. لم يستطع بلع رحيق الحضارة أو أن يستسيغ منها عبارة بل لم يستطعم منها حلاوة المعرفة فغدت على جهله علقماً.
حاول أن يسعف ذاته برشفة ماء فلم يجد غير بحار الشعر تحيط به، حيث كان العالم الشاعر ينهلها بحرًا بحرًا فضربه بعصا حمقه ليسد رافد معرفته فأرداه صريعاً. شرب كوب معرفة تفاعل مع جهله فتسمم وأخذته حمى المعرفة إلى حيث يكره فتقيأ خليط كفره فوق قصيدة كانت طاهرة في كيان شاعر مغدور قتله أحمق معصوم عن المعرفة. جاهل في عزة مزيفة وقف قائلاً: أنا من قتل العِلم وورثه، أنا من غَبَّ نبع المعرفه غَبًَا حتى تقيأه، أنا من تسمم لأجلكم وجاءكم بالحكمة أسيرة عصاه. أنا الحاكم بأمر الله فطأطئوا رؤوسكم لغزارة … جهلي.
ومنذ ذلك الحين أصبح الجهل وسامًا يحتفي به كل زعيم يتولى مقادير الحكم لسبب لا يعرفه في بلد لا يحبه مع شعب لا ينتمي إليه.
وهكذا أصبح الجهل راية والجحود غاية في ظل سلطان جهله فخره وحمقه عدله.
من كتاب: يعيش النظام
محمد إقبال حرب