جئت بأسرع ما يمكن لأشهدَ الوداع الأخير لامرأة استضافتني في رحمها تسعةَ أشهر، درَّبتني على الحياة بعدما استقر بي الجسد على كوكب الأرض. كفلتني رعايةً أثمرت ببلوغي مبلغ الرجال علمًا وأدبًا.
عرفتها أكثرَ مما يجب، علّمتني لغات ٍ عدّة لايفهما البشر، لغات استنبطتها من ينابيع الأمومة ، فأضحت لغتنا التي نقتحم بها جدران الصمت والعتاب، وفضاءَ الحب وأسرار نفسينا. تقاسيم وجهها لغة، تجاعيد بشرتها رموز، عمقُ عينيها قاموسٌ محيطٌ بأسرارها وأسراري. لغة البشر غابت بأصواتها وأبجديتها حتَّى لكأننا أضحينا في جنّة لا يطأها إلا ذو بصيرة نفّاذة.
قال الخبر، احضر قبل أن تفارق. وحضرت
وجدتها مسجَّاةٌ في مواجهة القِبلة، وكل من حولها جزعٌ مُترقِّب. لا يقربها إلا ليتأكد من رحيلها.
رهبة الموت تُرعب الأحياء، يخافون جثّة الهدف الموسوم في خشية ربَّما من أن يُأخذوا بمعية الراحلة إلى حيث استدعاها رب العالمين، ويدّعون مع ذلك حب الله المطلق.
وجهها لوّنه مجهول بألوان زرقاويّة فسلبه النضارة، ورشَّ ذبول الفناء على بشرتها. ألجم لسانها خائفًا من أن تبوح بآلية انتزاع الروح فيتفادها البشر.
أسدل عليها قناع الموت القرمزي فارتعب من حولها.
لم أخف، لم أرتعب، ألم آتِ من وراء البحار مودِّعا؟
إقتربت منها، أطلقت عِنان بصيرتي في كينونتها، مسحت كيانها كجهاز أشعة يفكّك رموزّا، قارئًا ما لم ينجلِ.
رأيت حوافَّ تجاعيدها طلاسم لم يجفَّ حبرها فأدركت أنها تدركني فخطت مشاعرُها على صفحة الوداع قَدَر رحيل.
رسائلُ موجهَّة إليّ، كيف لا وأنا من نشَّأته رجلًا، أنا من علَّمته المشاعر والأحاسيس. نظرت إليها مستطلعًا ما هي فيه.
قالت لي بلغة الشفاه الصامتة: إقرأ تجاعيدي.
تصفَّحتها بداية من أقصاها إلى أقصاها حتى تفكَّكت الرموز
الرسالة القديمة بدت كأنها شرحٌ لما حلّ بها، تنفيسًا عن صراعها: “الجسد مثقلٌ بألوان جديدة من العذاب الذي لا يعرفُ تحفيزَها إلَّا من يمتلك خرائط الجسم البشري الأصليّة. نوعُ جديد من الألم يَذهل له صاحبه. ولا يدري كيف يُعبّر عنه فيصيبه اختلال توازن الكينونة، ويعجز عن البوح بأسرار الفناء. عندما يتعرض الجسد البشريّ خلال فترة وجوده حياً لأي حدث يكوِّن له اسمًا أو وصفًا؟ لذلك يستطيع التعبير والشكوى بوحًا، أو الرمز بتعابير حركيَّة مستعملًا أدواتِ جسده. لكنه حينما يتعرض لنوع مختلف من المشاعر، حميدِها وخبيثِها، يصاب بالذهول لأنه لا يعرف له وصفاً. تكتمُ وسائلُ التعبير بوحَها تبحث عما يعبر عن ألم فاق الآلام المتعارف عليها، بل تجاوز المصيبة إلى حدّ لا يمكنه التحكم بأدواته التي اكتسبها عبر سنوات عمره.
من يثير تلك المشاعر؟ من يطلق العنان لأسلحة مدفونة في كيان كل منّا؟ من لديه جهاز الضبط النائي؟
لم أتوقف للتفكُّر في مغذى ما قالت. فالرسالة التالية بدت كأنما حُفرت لتوّها بمداد مشاعر حارّة فقرأت:
“أنا متمردة أرفض الاذعان لمن يسرقني، لمن يجتاح كينونتي دون استئذان. لم يكن دخولهم بطَرق باب كينونتي بل بهجوم صاعق على كل خلية من جسدي، دمروا مشاعري، أصبت بذهول جارف أخذ معه قدرتي على التعبير، على الحركة ، رغم شعوري بكل خليّة كنت أستشعرها قبل الهجوم.
أغمضت عيني لأستوعب حديثها فيما تجاعيدها الأخرى تبوح.
صرخ بي صوت سمعته من خلال الفراغ الذي حطم خلاياي: سلّميني روحك.
-لا أدري أين روحي؟
= طبعاً لا تعرفين، لكن لا يمكن أخذها الَّا برضاك.
-لن أرضى بتسليمها.
= إذن سنضطر لإذاقتك أنواعًا من العذاب لا تعرفينها حتى ترضخي.
إذا كان عليَّ القبول يكون من حقي الرفض.
اسأت الفهم، كل ما عليك أن تقبلي انفصال الروح عن الجسد بطريقة أو بأخرى. نحن نحتاج جسدك في مسألة تدوير النفايات.
لم أفهم الجملة، بل لم أستوعب ما المقصود بالنفايات، فأشحت برأسي لأُسكّن الدُّوار المفاجئ قبل أن أعاود قراءة تجاعيد الوجه الذي يزداد قتامة. لاحظت ذلك والدتي فكتبت: إنَّهم يضغطون عليّ بكل الوسائل لكنني لن أسلّم روحي.
تابعت:
قال الشيء الذي يغزوني: معظم الراحلين يستسلمون ويقدمون أرواحهم بسكون لكن المتمرّدين مثلك يستحملون بضعة أيام قبل أن يفسخوا العقد.
عقد ماذا؟ أأنت مجنون؟
لا، بل أنت أصابك كوكبُ الأرض بلوثة. لقد استأجَرت نفسُك الروح والجسد بعقد غير قابل للتجديد. انتهى العقد وعليك الخروج من الجسد. ولن تخرجي إلا بتسليم الروح.
لا أذكر ولن أخرج.
أخذت ارتجافاتها الداخلية تزداد، وعصارة بيضاء تخرجُ من فمها. اقتربت منها ماسحاً شفتيها.
ذَرفت دمعة وحيدة وقالت: لا زلت حنوناً. إنهم يضيّقون على سوائلي، يضغطون على خلاياي حتَّى يموت الجسد فأضطر للخروج إلى الفناء.
تابَعت وكأنها تكتب على جدران أخاديدها بسرعة: سألني الكائن عن سبب تمسكي بالعقد أخبرته عن عدم حصولي على حصتي من الحب والفرح، من العقل والجنون، لم ألعب مع الاطفال، لم أسرق الحلوى في طفولتي وتزوجت غصباً ممن لا أحب كما أمضيت حياتي في مجتمع ذكوري لا يحفِلُ بي… أريد حقي في البقاء حتى أحقق هذه الأشياء… لن أرضى بعرضكم المجحف.
صمتت، صمتت لوقت طويل. لم يعد هناك رسائل، لكنها تتنفس. توقف التواصل.
جلست قربها ممسكاً بيدها الباردة، أمسح رغى الموت عن شفتيها. أنظرت بعيداً خلف بودرة الفناء التي مسحوا بها بشرتها. أنصتُّ لأنفاسها. أرقب رسالة على صفحة خالية علّها تبثني خبرها دون جدوى.
غفت عيناي قليلاً، بل حتَّى الفجر. شيء ما أيقظني، يوعز إليّ في وصول رسالة.
رسالتي الأخيرة، هؤلاء الكيانات تكاثروا فاحتلوا كياني، بكل شيء.
أضرموا النار في كل خلية. داخلي يحترق رغم كل البرودة التي تحيق بكياني. لا أستطيع الاستمرار فمِداد وجودي انتهى، لن أستطيع الكتابة بعد الآن.
قلت بجزع وفزع: من هم، من هم؟
إنهم حصّادوا الأرواح. قالوا بأن روحي قد نضجت وحان قطافها.
قلت: وماذا عن عقد الإيجار.
قالت: وهل تصدق أكاذيب صاحب السلطة؟
انقطع الارسال، توقف النفس… وهمد القلب.
بدأ التكبير على راحلة لا نعرف وجهتها مع غرباء جبناء لا يظهرون إلا في السّر ولا يسرقون إلا الأرواح.
وقفت في الجنازة مودِّعًا جسدها قبل أن يدخل مرحلة التدوير. لمحت شبحاً يقترب مني قائلًا: لقد عرفتَ أكثر مما يجب. عليك فسخ العقد فجر الغد.
نُشرت في مجلة الحكمة – مجلة ثقافية دورية- العهد الثالث، العدد 22، تشرين الأول – أكتوبر 2019
كما نٌشرت في شهر ابريل في مجلة المنافذ الثقافية في شهر نيسان 2019 تحت عنوان “شهدت الجولة الأخيرة
محمد إقبال حرب
غفر الله لها واسكنها فسيح جناته وجبر الله خاطركم…
إعجابLiked by 1 person
عظم الله أجركم
ـاف شكر وتقدير
إعجابإعجاب