ثورة فقدان الكرامة

بين الفقر والكرامة … حراك ثائر

تراكم رماد الأجيال المستعبَدة في محارق الظلم والفساد عبر حِقب المذلّة التي حفرها حفّاروا قبورنا وقبور أجدادنا بعزة البطش ورهبة السياط. رماد أطفالنا أكداس فناء تترا فوق بقايانا من مزارع الفاسدين وزوايا الطائفية، نتبادل الأنين صرخات تتمازج الذلّ والهوان. تلفحنا سياط الحقيقة والوهم فتدفعنا روافد المتسلط المتجبر إلى مجارير الفناء التي بال فيها الزعماء على شرفاء الأمة وبقاياهم.

طفح الكيل وضاق فضاء مقابرنا بما زُهق من أرواح، بقايا نفوس متمردة تعفنت في خوابي النسيان حتى أضحت هباء منثورًا. عصارة الموت ما زالت تعتصر أفئدة المنبوذين لتسرق كرامتهم، تسلبهم رمق الحياة لتقدم محصولها إلى سلطان جائرٌ جشع، قذر يعشق إذلال شعبه بفرحة النصر انتشاء.

لم تحتمل الأرض بما رحبت صلف حماة طوق المذلّة فأعلنت العصيان وأقفلت أبواب الموت فتفجر البركان على مساحة وطن اسمه لبنان. تساقطت حمم البركان كتل لهب أرعدت وأرهبت للحظتها من كان على كرسي حكمه مطمئناً… شلّت يده فسقط سوط القمع كما سقطت نبابيت الطغيان.

إنها الصدمة الكبرى التي أحدثتها حروق من الدرجة الثالثة في جسد الحكم المنهك.

هذه الصدمة كانت كافية لإيقاظ أهل الكهف من سبات عميق، تردداتها أوجدت فجوات كبيرة في جدار الخوف الذي أنشأه رجال السياسة والدين على حد سواء فدكّت عروشهم المطمئنة بكوابيس الفناء. لم يكن الوقت كافيًا لدى رجال السلطة كي يرمموا تلك الفجوات بالترهيب والترغيب إذ كان صوت الجحافل التائقة إلى الخروج من ظلمة النظام إلى فسحة أوسع من الكون أعظم مما يتصورون. أعظم شأنًا من كيد سلطة تمسكت بأركان البلاد لعقود وكأنها عدو لدود. سلطة لم ترحم بقرتها الحلوب من استنزاف بقايا لبنها حتى ضمر الضرع وأصابته الآفات فأضحى قطيع الأبقار هزيلا.

ركبتُ الموجة التي تعزف ألحان الحرية كمعظم أبناء الوطن وتوجهت إلى التجمع الثائر الأكبر في ساحة الشهداء. أنزلني “فان رقم 4” عند عنق زجاجة شارع بشارة الخوري، حيث البشر زرافاتًا ووحدانا. خلعني البصر وانطلق في الأفق يسبر فرحة المشاركة في تغيير طال انتظاره. تسارعت خطواتي إلى الأفق لتمازجني اللحظة بأبناء وطني، لحظة الانتشاء. هتافات وأعلام، وجوه شابة بمعظمها، أسر كثيرة مع أطفالها، يشدها شيء ما. تمعنت في الوجوه، في حركات الأجساد، بتناغم الخطوات على صدى واحد “الشعب يريد اسقاط النظام”. جماهير تحمل علمًا واحدًا، علم الوطن، وتنبض بلحن واحد متناغم “ثورة، ثورة” رغم أنواع الأغنيات الوطنية ومراكز توزيع الأعلام والمياه التي لم يعرها كثير اهتماما. كان العطش للحرية والعدالة أكثر إلحاحًا. هالني وجود هذا الكم من الشباب والشابات لبرهة، لم أتمالك الاعتراف بهول الصدمة المفرحة، صدمة الولادة، ولادة هذا الجيل المتمرد الذي أعلن بصراحة “موت الجيل القديم” الذي حضر على استحياء. يا إلهي، إنه جيلي، جيل الحرب والنضال، جيل الصمود والوطنية!
بعد نفس طويل أدركت بأن جيلنا بمعظمه مهزوم، مقيّد، جرفته الزعامات والطائفية والمصالح الخاصة فركن كثير إلى الطائفية، والمناطقية والأحزاب التي تؤمّن له مصالحه الخاصة تحت ظروف وشروط وقّع عليها دون قيد أو شرط. سقط جيلنا بمعظمه في محرقة المصالح الخاصة ووضع كلٌ على رأسه إكليلًا طائفيًا يميزه عن الطوائف الأخرى ليتمكن من اصطياد أكبر قدر الفرائس والمنافع الشخصية تحت لواء سيد عظيم بنى لنفسه صرحًا من ضحايا الفتن فقدّسه الأتباع.

سبرت المسيرة، ذهابًا وإيابا، أقرأ الوجوه، أستنير بما لا أعرف. تزيّنت الصبايا بصبغ الأمل على خدودها، وتمنطق به الشباب سلاحا. جاء الشباب بسلاح العلم والمعرفة بحثًا عن أمل منشود، وتزاحم الباقون لعرض مآسيهم وتجاربهم المذلة مع السلطان الجائر. قصص المذلّة والطغيان أغرب من حكايات ألف ليلة وليلة، مراحل العذاب الاجتماعي والفكري أكثر إيلامًا من سجون المحتلين، حكايات باح بها صوت الأشراف في ساحة الحرية وعلى شاشات التلفاز، دونوها على شعارات مكتوبة تنكأ الجراح المزمنة بقراحها ومآسيها. الفكر الجماعي هو الشعور الجماعي بالتغيير الشامل، الكل غاضب متمرد رافض للماضي المتراكم عبر سنوات طوال. الشباب ينؤ بحمل العبودية الثقيل الذي ورثه عن جيل قدس الزعيم ورجال الدين دون الله والوطن. رمى بكل الأعباء والموروثات في قمامة الشارع وانطلق إلى هنا يبحث عن البديل.

أثارت موجة التغيير نقاشات عديدة تبحث عن دوافع الثائرين دارت بين الأصدقاء كما على شاشات التلفزيون، كما كتب عدد من المحللين آراء بعضها من عمق الصراع وكثيرها من كوكب فيغا. نظريات المؤامرة لم تنجُ من أن تكون ستار هرب من مواجهة الواقع. في الواقع ضحكت كثيرًا عندما سمعت بأن هناك مؤامرة، فمتى لم نكن في خضم المؤامرات ومن كل الدول الصديقة والاستعمارية. عندما “يقبض” مسؤول من دولة ما ليخرب في البلد لماذا لا نسمي ذلك مؤامرة. عندما تستدعي السعودية “والاستدعاء عادة لا يتم إلا لجريمة أو استفسار أمني” بعض النواب، بل رئيس مجلس الوزراء وتملي عليهم، وتدفع لهم مقابل خدمات، ألا يسمى ذلك مؤامرة؟ عندما تدفع أميركا لأي مسؤول لضرب المقاومة أو تشويه صورتها، أليس ذلك مؤامرة؟ بل مؤامرة وخيانة لم تتخذ الحكومة تجاه أي كان أي خطوة ترفع من وطنيتنا. المؤامرات كثيرة، والمرتشون أكثر على مساحة الوطن، لذلك نرجو من الحكومة عدم المزايدة على الشعب بموضوع المؤامرة لأن معظمكم شريك في مؤامرة إما على الوطن أو الشعب أو كلاهما. عندما نحمّل “نظرية المؤامرة” كل ما يحصل نكون منافقين كاذبين هاربين من وضع اليد على مشاكلنا الحقيقية وتصويب رصاصة الرحمة على أسبابها إصلاحًا واعمارًا. نظرية المؤامرة عبر كل الحكومات سلاح تخوين يُوجه لكل من طالب بحقه الشرعي. أليس هذا دأب الحكومات الفاسدة، الطاغية في تشويه صورة طالب الحق؟

الطالب الذي لم يُقبل في جامعة أو مدرسة لأنه من طائفة أخرى أو لأنه لم يسجد لزعيم حضر إلى حيث الأمل. المرأة التي تتسول علاجها كذلك حضرت. المواطن الذي لم يجد عملًا لأنه من عائلة متواضعة حضر لمواجهة الجوع. أستاذ الجامعة الذي لم يحظَ براتبه لعدة أعوام جاء ليرد عنه بأس النظام العقيم. المواطن الذي يدفع فاتورتَي ماء وكهرباء دون الحصول عليهما أصر على الحضور ليضمن حياة شريفة لا يعرفها الزعماء وزبانيتهم.  الشباب بكامله ها هنا يبحث عن شمعة أمل حتى لا يضطر أن يهاجر وطنه الطارد خوفًا من زعيم جشع، خوفًا من أصحاب “مَظلات” الحماية البوليسية التي يؤمنها الزعماء لـ “زعرانهم”.

بعد تفكير عميق لم أجد الفقر سببًا رئيسيًا للثورة، ولم أجد العوز دافعًا ملحًا للانتفاضة. فالفقير عادة ما يؤمن بالجبرية كما علّمه الأسياد، لذلك يرضى بنصيبه، يعمل بجد ونشاط، يتسول ما ينقصه وقد يسرق حاجته أحيانًا خوف الجوع والمذلة. وإذا ما انتفض الفقير ستتم مرضاته بكسرة خبز من فتات الزعيم، أو بزيارة من الزعيم المقدس لشيخ القبيلة يتم خلالها “مصالحة عرب” رأسمالها قبلة من الزعيم على خد كبير العائلة والطلب بحل الحراك.

لكن حراك الثورة الأنيقة التي تتمازج على مساحة لبنان، ثورة الطلبة والشباب، ثورة فاقدي الأمل بمستقبل واعد تحمل أسبابًا أكثر عمقًا وأصلب كيانًا.

ثورة فقدان الكرامة.

لقد فقد الشعب كرامته منذ عقود. فقدها عندما أصبحت الوظائف خاضعة لدين لم يختره أي مواطن. وظائف خاضعة لرضا الزعيم الذي لا يوظّف إلا نتاج مزرعته. فقد الشعب كرامته يوم تسول الفقراء دواء الأطفال والعجزة، عندما تسوّل المرضى سريرًا في المستشفى من زعيم لا يرحم فقضوا قبل أن يتنعموا بالعلاج. فقد الشعب كرامته عندما أصبح المدرّس عالة على الدولة فسلبته حقوقه كما سلبت المواطن حق التعليم فأهملت مدارسها لتغذي المدارس الخاصة التي يتملكها الزعيم وزبانيته المقربة لاستنزاف مقدرات العائلة. فقد الشعب كرامته عندما سرقت الدولة وأساءت إدارات الكهرباء والماء والهاتف والزبالة حتى تفاقمت الأمراض والأوبئة فأضحى لبنان بؤرة لا يسكنها عاقل. فقد الشعب كرامته عندما أصبح الغوغاء حاملي لواء النظام والتحكم بالبشر حتى في أبسط الأمور المعيشية. لقد أصبح المواطن الشريف بطبقاته الاجتماعية يخاف من “زعران” الشوارع الذين يكللهم “غطاء” مقدس يسمح لهم بإهانة أي كان دون خجل. فقدت الدولة مصداقيتها مع تسرب الحقائق عن حجم الثروات المنهوبة من اشخاص ما زالوا على سدة الحكم والتحكم بلقمة العيش.

الكرامة التي فقدها الشعب هي أساس الثورة، الكرامة التي داسها الحكام بحذاء قديم وجدت درب التمرد، بصيص أمل في التغيير.

من يجرؤ أن يقول للثائر تنازل عن كرامتك؟ عُد إلى مظلة طائفتك لتحميك؟

من يجرؤ أن يقول للثائر عُد إلى زعيمك ليعطيك ما يرضاه، لا ما يرضيه؟

ألستم أنتم أيها الزعماء من سلبتم لقمة عيش المواطن؟ ألستم من أذلّه فبات يتسول حقّه؟

ألستم من أشاع الخوف والكراهية بين أبناء الوطن تحت حجة الدفاع عن الله والأنبياء؟ وكأن الله ضعيف لدرجة أن يستنجد بكم.

تبًا لكم، ومن وقاحتكم، من انعدام مشاعركم، وانهزام انسانيتكم أمام حيوانيتكم.

ستسقطون… ستسقطون قريبًا جدًا ليس لأن الثورة أنيقة بمظهرها بل لأنها أنيقة بفكرها ووعيها وعمق ادراكها بأن العودة إلى الوراء إلى حيث كنّا لأسبوع خلا ضرب من الغباء والجنون.

محمد إقبال حرب

2 comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s