النافخ والشفاط

ولادته مجهولة كملامح وجهه، ولد طفيلياً يقتات على جهد الآخرين فيحتال على هذا ويختلس من ذاك دون أن يشعر بالرضا. لم يشبع رغم التخمة ولم يكتفِ بثروة رغم ثرائه الفاحش. فكلما تحرك صدغٌ شعر بلحن مُضَغ كان يحتسبها من عزف أضراسه فيلوك بلسانه مُستطعِماً. سقطت من كيانه لذة الحياة إذ باتت كل لقمة لا يستطعمها تؤرقه، تنغّص حياته ويعتبرها منهوبة من مخازنه، كما وسَم كل قرش خارج خزائنه بالمسروق. طمع في كل لقمة ترتد إلى فم دون فمه وحسد كل مقتنىً يحوزه بشر. عانى من الجوع رغم نوبات التخمة التي لم تبارحه قط. آمن بأن الأرض وما عليها ملك له حتى اتّهم الناس بالإسراف كونهم يرمون القمامة خارج خزائنه. تنازعته مثالب البشرية فاستقر على أحقرها. تسللت يداه جيوب البسطاء والضعفاء حتى تجلّى في حقارته. وما أن برع في لصوصيته حتى أخذ يشفط مقادير الحياة من كينونة جيرانه وأقرانه فأضحى أبناء بجدته خيالات ممسوخة لا تقوى على الحياة. وذات يوم اكتشف أحد الضحايا قدرته على شفط الأرزاق ولف حبال الفقر حول الأعناق فأرداه قتيلاً. ومع تزايد عدد المُلاحظين خاف عقبى الفضيحة كحال كل الفاسدين فجمع ملكاته في ليل ضاق به السديم يستنجد حلاً فألهمه ابليس سديد الحكمة الشيطانية “داوِم على النفخ بعد الشفط”. لم يدرك المغذى كون أفكاره مركزة على الاستيلاء، الاستيلاء على المال والأرزاق، فاستعان بشيطان رجيم تألق في نار متأججة ليعلمه الاستحواذ على العقول. قال حكيم ابليس: أنا لا ارتاح حتى أنفخ ما في ذاتي من رجس أبدي لكنها تعاديني بالانتفاخ الأزلي وأنت لا تشبع حتى تبتلع البحر واليابسة بما فيهما وعليهما. نحن من يوازن الوجود حتى نبقيه معتدلا. غمرت الكائن الطفيلي فرحة حل الأحجية فأقام مع ابليس حلفاً أسمياه “النافخ والشفّاط” فطفق الطفيلي الذي استبدل اسمه بلقب الشفّاط وأخذ يشفط بألف ألف خرطوم أرزاق الناس بكل انواعها فاستولى على مقاديرها من مأكل ومشرب، ماء وهواء. وكانت سعادة النافخ أكبر إذ وجد أجساداً هزيلة تجعدت بشرتها وغارت أعينها في أجساد خائرة فدسّ خراطيمه في فتحات الأجساد وأفرغ فيها سموم غازاته حتى اكتنزت بخيرات السموم فخرّ أصحابها ساجدين للنافخ والشفّاط على حد سواء. أنعشهم النفخ الذي أعاد لأجسادهم قواماً يذكّرهم بخير مضى على ما يعتقدون. طغى الجشع والطمع على الشفّاط فلم يعد يفرّق بين الممتلئ والمنفوخ حتى شفط الجميع وأضحت أجساد البشر هزيلة مليئة بثقوب الاهتراء التي مرّ بها الموت مراراً دون أن يطفئ محرك القلب الذي نضب زيته. بدأ النافخ يئن من أوجاع سمومه التي لم يعد يجد لها منفساً كما ضاق الشفّاط بنضوب الخيرات ذرعاً إذ لم يعد يستطعم لذّة الاقتناص والالتهام فطفقا يكيدان لبعضهما البعض كيدا لنضوب الأرض من فرائس تصوّب إليها الخراطيم شافطة نافخة. وذات يوم اشتعلت نيران الجوع في كيان الشفّاط ففقد خاصية دهائه فمد خراطيمه إلى شريكه القديم من كل حدب وصوب فاقتنص شافطاً ما بداخله على حين غرة. تكاثفت كمية السموم بشوائبها وسمومها في كيانه فانتفخ بطريقة مهولة متأججاً بسموم صديقه الراحل حتى انفجر. غطّت قذارة جسده السماء فأمطرت سمّاً زعافاً أهلك مدناً وأريافاً وأفقد كوكب الأرض زرقته. كما لاقت الحيوانات حتفها فسكن دبيبها حتى انتعشت هوام الأرض متغذية على بقايا مستبد اختصر الوجود بحقارة وجوده وفيض سمّه الزّعاف فالتهب الكون حتى استعر بلهيب الحقد والكراهية فمات بقية الرعاع لضعف بنيتهم وجبن طبيعة جُبلت على الخنوع حتى أضحى الكون رماداً لم ينجُ منه إلا ساكني المناطق النائية تلك التي لم يصلها خرطوم من خراطيم الشفّاط ولم تدنّس بغازات النفّاخ وبدأ خلق جديد سماده بقايا شفّاط طفيلي مستبد ونفّاخ شيطاني ابتسامته سم زعاف. وبدأ خلق جديد تغذّى على سماد الحقد وسموم الكراهية. محمد إقبال حرب – لبنان

5 comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s