قرابين السخماط والأرجوان

نعم أنا من هناك، لم أنكر ذلك قط. أنا من هناك، حيث تنتهي الآفاق، ولدت في تلك الدار الفقيرة من العشوائية الموبوءة، عند أطراف اللاشيء. ولدت في زحام عابر وترعرعت في ازدحام دائم، في ضيق مستمر وسباق مع أترابي لالتقاط فضلات البشر للبقاء على الحياة. ولدت مع بضعة أرواح في حيز واحد من الزمن من أجساد هزيلة. يومها بدأ صراع بقاء، صراع البقاء بحثاً عن ثدي ينز حليباً. ومات الضعفاء خلف أمهاتٍ هزيلاتٍ رحلنَ دون وداع، فتم التعويض عنهن بعرائس جائعات ينتظرن طفلاً ذكراً، ليكبر ويحميهن من مذلة العوز. هناك تمر بنا الأيام تباعاً، فلا نعرف لها من اسم بل نأخذها بدلالاتها، اليوم الذي نحصل فيه على وجبة مشبعة يصبح تاريخاً، كذلك نؤرِّخ أيامنا إن حظينا بلباس أقل تمزقاً. أما اليوم الفارق فذاك الذي يتصارع فيه أبناء العشوائية على فتاة اهتز ردفيها بين جنبات زنقة تعج بالعاطلين عن الحياة. هناك، حيث تُسكِت الضوضاء العقل وتذهب بالحلم عشت قريباً من جدار الموت، فما أنا إلاَّ واحد من أقلية وضِيعة منسية من قاموسِ الإنسانية، منفية عن مقاعد الدراسة، تعيش في جفاء عن أبناء البشر الذين احتلواالمدينة بشوارعها ومنازلها، وسطوا على مياه الوطن ومقدَّراته، بل حتى على هوائه وبحره، فبتنا نعيش بعلاً كما تعيش نبتة الطماطم فتثمر ثمراً يلدغ اللسان بحموضته. فبتنا نلدغ بلا رحمة وننفث السم دون اكتراث. تعلَّمنا الكراهية، وتشرَّبنا الحقد والجهل، في سجن الوطن الكبير. ألهبنا الحاكم سياط الفقر، وطعننا برماح العوز، فسد منافذ الرحمة، وقطع دابر الماء والهواء إلا بمقدار بالكاد تسد رمق الحياة إلى أن جاء من البعيد ذاك الذي علمنا فلسفة السخماط والأرجوان، بعد أن زرع فينا العلم والإيمان؟ قال الذي جاء من البعيد يسعى: أيها المصابون بكل وباء من مجاعةٍ وشقاءٍ، يا من لا تسمعون إلا طحنَ المواجعَ ولا تتنفسون إلا رذاذ عفن أجسادكم. عفن تذروه الرياح بعيداً عن صفوة القوم حتى لا يصابوا بالزكام. أيها الرعاع المنسيون من كل ذاكرة أراكم لا تستشعرون حتى خطاطيف الموت التي تنزعكم روح الوجود، فتسيرون أمواتاً متلاطمين دون اكثراث. تتزاحمون على الفُتات، وتتكدسون في المخادع خوف آفات الرصفان في فلاء تتملكه كلاب الليل وقوارضه. يا من لا تجدون غير بقايا البشر لتسدوا أفواه صغاركم قبل الانكباب على النوم كرهاً وغصباً. ها قد جئتكم بريحٍ من الجنة تسعدكم في الدنيا والآخرة، تذهب عنكم لعنة التهميش وتبعثكم في جنان ترفل بالحور العين، تستلذون فيها بما طاب من النساء والأكل والكساء. لن تجدوا بعد اليوم من يمسح نعاله بأقفيتكم، ولن يدس مهمازه في أجسادكم باسم الديمقراطية والمساواة وتفاهة العولمة. لقد منعوا عنكم العلم الذي هو مفتاح كل شيء، وقد جئتكم به، كما جاء من السماء. لقد حجبوا عنكم القرطاس والقلم كما حجبوا الماء والدواء فماتت الأجنةُ وأضحى البالغون أجداث جهل يستغلها أصحاب السلطة في حرث ما جنت أيديهم من أرض وعقار. سكت قليلاً بينما يمسح لحيته وَرَعَاً، وعدَّل كوفيته احتشاماً وحياءً وقال: اجلسوا لنبدأ الدرس فنحن في سباق مع أبناء الكفرة والزنادقة سارقي القوت ناهبي الثروات. فلنحاربهم بالعلم والمعرفة، لا ليس علم الدنيا الذي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بل علم الحق الذي يفتح عليكم أبواب الجنان وسعادة الذكران. ولن تفتح كنوز الرحمة إلا بقرابين السخماط والأرجوان. ذاك الذي جاء من البعيد ساعياً إلى هدف في قلبه مدفون، أنشأ حلقات التعليم وأقام الصلاة بتزامن لا يضاهيه إلا تدفق المدرسين الملتحين المؤمنين، المحملين بالخيرات حتى صاهروا العشوائية وأغدقوا خيرات تتساقط عليهم من حيث لا ندري حتى بدأت فلسفة السخماط والأرجوان تتجلى رويداً رويداً. مرت الأيامُ حتى أدرك سطوته فقال: أولئك المتخمون بعلم الأغراب وفلسفة المادة، الذين يسرقون أعماركم سخرية واستبداداً. الذين يكدّسون ثروات يجمعونها من مزرعة كانت وطناً فلحتموه على نير عبوديتهم فأثمر ذلكم. ستتحطم الأصفاد عندما نستعيد علم السلف ونتبع خطاه، عندما نعيد كل شيء إلى منبعه صافياً بالعلم والعمل والإيمان لا، ليس أي علم، بل علم السماء. فإذا ما تعلمتم العلم الصحيح وربطناه بالعلم الحديث الذي لا يحمل وزراً نصبح جاهزين لتطهير هذا العالم من نجاسة الكفرة المتسلطين. قدموا دماءهم قرابين ارجوان وممتلكاتهم قرابين سخماط يغفر لنا الرحمن. اقتلوهم واذبحوهم وحرِّقوهم، ولا تبقوا في ديارهم إنساناً. صرخ بعض الشجعان الذين تذكروا أخيهم الإنسان: علينا أن نعاملهم بالتي هي أحسن حتى نحافظ على الوطن، ونتقي الله في أرواحهم. لا نريد أن نكون إرهابيين ونقتل إخواننا المؤمنين. أخذ نفساً طويلاً ثم تابع مجيباً: من هو الإرهابي يا هذا؟ أليس ذاك الذي سرق منكم أسباب الحياة وترككم أمواتاً في عشوائية لا تعجب حيواناً أجرب ارهابياً؟ أليس من بنى السجون عوض المدارس إرهابي؟ ألا تسمُّون ساكن القصور وشعبه مذلولاً مقهوراً إرهابياً؟ تباً لكم ما أغباكم، تريدون لهم الرحمة وندبات سياطهم لم تزل على أجسادكم الهزيلة سمة جوع وعطش. أولادكم يتضورون جوعاً وهم يموتون من التخمة كفراً وضلالة. لقد وصل بهم الحال إلى الكفر أيها المؤمنون، لقد أقاموا التماثيل وسارت نساؤهم سافرات، بل أباحوا الاختلاط وشربوا المنكر وسمعوا رجس الشيطان موسيقى عاهرة فاجرة. لا لن نتعامل معهم حتى لا نغضب الله. بل سنقيم الحدود فنسفك دمهم الأرجواني ونحرق وجودهم سخماطاً هباباً قرباناً إلى الله ليغفر لنا تأخرنا في إقامة العدل. صرخ بعض العقلاء: مهلاً، مهلاً هل سنقتلهم ونقتل أنفسنا؟ هل سندمر بلدنا؟ فلنسع إلى وسيلة أخرى تصلح الأمور بسلام. نظر إليه ذاك القادم من بعيد قائلاً: الخير أن نُقتل في جهاد ونحصل على إحدى الحسنيين. أما هم فجزاؤهم النار… نار نحن نشعلها ونار يوقدها الرحمن. اذبحوا رجالهم وأحرقوا بيوتهم وقراهم بما فيها حتى تعج السماء بسخماط اللهب وتتلبد السماء بِدَكانة ذنوبهم فتمطر مطراً أسود جارفاً يجرفهم بدمائهم وأجداثهم إلى بحر أجاج يطهر الأرض منهم. علمني ذاك الذي جاء من البعيد يسعى أن مكاني هو علياء لذلك سأكون بعد التفجير مع الحور العين أرقبكم من السماء. محمد إقبال حرب – كتاب يعيش النظام

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s