ما بيضحك للرغيف السخن*
هل شاهدت ولادة رغيف من رحم تنُّور أو فوَّهة مخبز؟ أم جادت بك الأيام فراقبته ينضج على سطح صاج في صباح مشرق؟ ها هي عجينته البيضاء تستنشق من وهج النار وجهاً ذهبياً يسحر لب الناظرين، بينما يهفهف على سطحه بخور نُضجه فيتسلل عبق الطبيعة إلى حواسك برحيق حبة القمح وشذى الأرض فتثور بداخلك مشاعر بريئة تدعوك لاحتضانه حتى لو لم تكن جائعاً. تبتسم للرغيف وكأنه كائن حي رغم ما يعتريك من همٍ وغم، تتوقف لحظة لتأخذ نفساً عميقاً حتى لو كنت في عجلة من أمرك.
لكن في غابر الأيام كان يمر به البعض بوجه كالح متسمر على الحزن، غير عابئ بذاك الرغيف وما تلاه، لا يزيح قناع النكد لرغيف طازج أو لبسمة طفل. لم يكن باستطاعة البعض إخفاء ما يعتريهم من غضب واضطراب وجود لضيق ما باليد من حيلة فآثروا الاحتجاج بقناع السخط والغضب. قناع أضحى متوارثاً عبر العصور لكل من جاشت في صدره نيران الشوق للانعتاق والحرية من الذلتين، الاستعمار والفقر. كانت أقنعة النكد تلك وسيلة لإخفاء مشاعرهم التي فرضتها الظروف ورجمها المجتمع بعادات وتقاليد عقيمة. تلك الوجوه البائسة لا تستطيع نزع قناع الاحتجاج والابتسام لذاك الرغيف الساخن رغم إدراكها قدسية العلاقة الإنسانية بين الإنسان والرغيف. بل عمق العلاقة الوجودية مع الرغيف الذي جاء نتيجة نضال انساني موغل في التاريخ. فمنذ أن أكتشف الإنسان حبة القمح سعى جاهداً لاستئناسها وتدجينها في حقول شاسعة مكنته فيما بعد من تخزين محصوله من تلك الحبة التي وقَـته الموت جوعاً وأعطته المزيد من الوقت للتفكير والتطور إذ لم يعد لزاماً عليه البحث عن وجبة اليوم الذي يحيا أو الغد الذي ينتظر. لذلك نجد العلاقة وثيقة جداً بين الرغيف والأرض، بين لقمة العيش وتطورنا إلى ما نحن عليه.
أفرزت تلك الوجوه المتمردة حالة من الاشمئزاز لمن لا يملكون مفتاح الحقيقة فأرسل أحدهم نعتاً أضحى مثلاً شعبياً “ما بيضحك للرغيف السخن”. ذاك الذي لا يضحك للرغيف الطازج في زمن الفقر والاضطهاد والاستعمار كان له عذره الغير معلن. وكان الناس يعذرونه رغم التندر بوجهه العابس فيعطفون عليه ويأخذون بيده ليتناول معهم بعض من ذلك الخبز المقدس لكل كائن حي رغم إصراره على العبوس الدائم كوسيلة احتجاج إلى سيد السماء.
واليوم، مع تحول الرغيف الساخن الذي لم تعد تراه إلا في قرية بعيدة، أو بيت يعشق التراث اختلف الأمر. أصبح الرغيف منقوشة زعتر، صحن فول أو كعكة طرية يسعى لها العمال بكل أطيافهم صبحاً ومساء. لكن أعداد “الضاحكين” لهذا الرغيف العصري أضحى معدوماً.
لا، ليس ترفاً وبحبوحة بل فقراً وبؤساً. فمشاعر الخوف والرعب تظلل ليالي ونُهر المواطنين. الخوف على غدٍ أعظم أنواع الخوف، والرعب من مستقبل لا نور فيه أعتى أنواع الرعب. وامتزاج الليل والنهار في لجة مظلمة رغم ضوء الشمس وسحر القمر ألم عميق ينحت في الوجدان حتى ينهي وجوده. ومتى فقد الإنسان وجدانه تحول إلى ذئب كاسر ينهش بمن حوله، يقتنص أي فرصة ليثبت حقه في الحياة غير عابئ بأخلاق أو قيم.
لا عجب في ذلك، إذ اننا في زمن يستولي به الحاكم وزبانيته على مقادير الحياة، يتحكم بمفاصلها، يحيي ويميت وكأنه إله خرج من غابة الذئاب. ما أسعد الإله الذئب عندما تقدسه النعاج.
في الماضي كانت الشعوب متقاربة في الظلم والبؤس وشح المصادر مما حدا بالفكر الجماعي الإنساني عبر الكوكب الأزرق أن يدفع الإنسان لمساندة أخيه الإنسان وأن يعتبر مشكلته الوجودية مشكلة واحدة ضد عدد من الطغاة الذين يقل عددهم ويزداد مع ارتفاع وانخفاض مستوى الحركات التحررية. لكن في زمن الانحطاط الذي يطغى على بلاد الشرق التي وُئدت به الأقلام، وترعرع عصر السجون، وأصبح الأحرار زنادقة يرمون بسهام الفناء أضحى المستبد وزبانيته آلهة ينعمون بكل أنواع الرفاهية ويتحكمون بكل مصادر الحياة من أكل وملبس وعمل وتعليم. بل يتحكمون في صفوة الناس ورعاعهم على حد سواء فلا تجد من يستطيع أن يبش للرغيف الساخن، ولا من يقدر على اصطياد رغيف بارد ليلقم أطفاله ما يسد رمقهم.
لم يعد هناك من يضحك للرغيف الساخن ولم يعد هناك من قناع يحفظ ماء الوجه بعدما صادر السلطان أقنعة التخفي حتى يتساوى الجميع مذلة وإهانة. جميعهم فقدوا البوصلة، بوصلة السعادة والقناعة كما فقدوا عذرية حريتهم بألف وسيلة اغتصاب ووسيلة. لذلك يخافون البسمة التي يكرهها صاحب السلطة في وجوه عبيده خوفهم من الزبانية وسياط سجَّانيهم. ولي الأمر، الإله، يعشق المذلة لأتباعه ومن سوء حظنا في بلاد الشرق أننا ولدنا فيه أذلاء في عصر الانحطاط، يتوارثنا أربابه كقطيع ماعز أجرب يأنفون حتى النظر إليه. قيل في الماضي بأن جميع الرسل والأنبياء خرجوا من بلاد الشرق لنشر الرسالات السماوية بينما نجد نفس الأرض تزفر رسل ابليس تباعاً، رسل قتل وإرهاب لا يعلمون من الدين إلا “الأقربون أولى بالمعروف” معروف القتل والتدمير والاغتصاب.
أعجب من عبيد هذا الزمن الذين يصرُّون على اقتناء الأقنعة بدلاً من تحطيم عروش الآلهة وتكسير أنيابها التي تحفر في الجلود والأرواح ندبات المذلَّة… تباً لهذه الشعوب الخانعة التي تأكل بقاياها وتتوضأ بماء الخنوع لتصلي خلف إمام أجير يفتي لها بحرمة الكرامة.
شعوب كاذبة منافقة تلعن الحاكم وتسجد له. تفرح لشبعه وهو يعاني من التخمة، ترتجف في أكواخ الصفيح والعراء فيما يحتسي الحاكم خمراً شرعياً في قصير منيف عمدانه عظام أجدادهم.
تمرد أيها العبد الذليل حتى تستعيد رغيفك الذهبي بعبقه الذي يشدك إلى الأرض، تمرد قبل أن تشتري قناع المذلة لطفلك، تمرد قبل أن تبيع ضميرك فيستأجرك نخاس الشعوب لتقتل جارك وقريبك قرباناً لصاحب المزرعة. تذكر بأنك الآن نعجة في مزرعة المستبد وبأنك ستعلَّق ذات يوم قريب في حفل شواء يبش له سيد القصر كما بشَّ أجدادنا لرغيف ساخن.
*مثل لبناني
محمد إقبال حرب
نشرت في المجلة الثقافية الجزائرية
http://thakafamag.com/?p=8858