شركة إعادة التأهيل الوطنية

لم يتساءل زينون عن سر الحيوية المتدفقة التي اعترته هذا الصباح بل استغل الوضع وقام بإنجازات وفيرة في الحيز الذي يسكنه. وضَّب خلالها فوضى قديمة بين المكتب وزاوية نومه مروراً بركن المعيشة الذي كان عبارة عن سلة مهملات منسية. انتشى فرحاً كون فاتورة الطاقة التي يستخدمها مجانية. لم يحدث يوماً أن طالبه أحد بدفع الفاتورة، ولم يُقطع عنه اشتراك قط. بل لم يطرأ أي تذبذب في تدفق الطاقة طيلة عمره.

خرج فرحاً مرحاً يرش البسمة على المارين دون اكتراث، أخذ يقفز كطفل صغير بين حجارة الرصيف القديمة بل أمسك بغصن شجرة متدلية وصاح كطفل صغير كانه منذ عهد بعيد. لم يعارض أحد ولم يكترث البتة لنظرات الفضوليين الذين بحثوا عن لوثة في كيانه. انحنى ليقبل زهرة كما فعلت نحلة عابرة تستقي رحيقاً فسقط على الأرض طريحاً.

لا أحد يعرف لماذا قرر مراقب خطوط الطاقة أن يفصل عنه التيار في مكان غير معهود. فعادة ما يتسم قسم الغاء الخدمات بشيء من الكياسة فيتم فصل الخدمة حين يكون المشترك في منزله أو مكتبه ليقضي حتفه بسلام. فمعظم المشتركين الذين لا تشوب أجهزتهم أعطال فنية أو قِصر في القدرة على استيعاب تدفق الطاقة عبر روافد سرية لا يعرفها إلا صاحب الشركة لا يتوقعون إنهاء خدماتهم دون إنذار مسبق. وحيث أن بقايا الطاقة في الجسد تأخذ وقتاً حتى تضمحل استغل دماغه هذه الفروقات الزمنية فبقي في حالة تشغيل صامتة. ومن حسن حظه مرت سيارة صيانة تابعة لشركة إعادة التأهيل الوطنية التي التقطت علامات فقدان الطاقة في بشري قضى لتوه فأطلقت صفاراتها. تولى الطاقم الموجود عملية الإنقاذ بدءاً من التأكد من فصل التيار الأساسي حتى لا تتورط الشركة بمشاكل قانونية. بعد التأكد من فقدان الطاقة بالكامل لدى جسد زينون قام الفريق بضخ كمية كبيرة من الطاقة أنعشت أجهزته. تم نقل زينون بعربة النقل الخاصة بالوحدات المعطلة لعرضها على المختص. بعد الوصول إلى مبنى الصيانة وإعادة التأهيل الذي تديره شركة إعادة التأهيل الوطنية قال الطبيب بأن الافراط في استخدام الطاقة على نحو مفاجئ لم يجد استجابة من المصدر لزيادة الحصة مما تسبب في تعطيل ثلاث صمامات، كما تم رصد سد مجرى السوائل الحيوية التي تنظم عملية التغذية والتشحيم لأعضاء الجسد.  وحيث أن الشركة المنوطة بأمور إعادة تأهيل الأجساد شبه النافقة تأخذ على عاتقها اصلاح الأجهزة البشرية القابلة لإعادة التشغيل تحت بنود اتفاقيات وقوانين حكومية تلزمها بإصلاح الوحدات البشرية التي تتوقف عن العمل دون سابق إنذار اضطرت لاتخاذ الخطوات الضرورية لإنقاذ زينون رغم عدم تعاقده معها. فالشركة لا تريد مشاكل قضائية كونها لم تقم بعملية اصلاح وحدة بشرية توقفت عن العمل في مكان عام.

تم تغيير الصمامات الثلاث وتوسعة بعض مجاري الدماء حول القلب.

بعد أيام من تدفق الطاقة رغم عدم كفاءة قطع الغيار كالقطع الأصلية استطاع زينون أن يمارس حياته اليومية المعهودة دون مشاكل تذكر. وعندما حان وقت الانصراف من مبنى شكرة إعادة التأهيل الوطنية قدَّم إليه مندوب الشركة فاتورة الإصلاح فأصيب بدهشة بالغة كون الفاتورة أكثر مما جمعه طيلة حياته. اعترض ورفض أن يدفع كونه لم يطلب أي من هذه الأعمال مما أضطر الشركة أن تبقيه في عهدتها حتى يبت القضاء في أمره. قرر زينون الهرب في ساعة متأخرة من الليل لكن الحرس الأبيض أمسك به وأعاده مكبلاً إلى سريره. بقي هناك تحت رقابة ملاك الرحمة التي تخفي سكيناً تحت جناحيها.

قررت الشركة الادعاء عليه بقضية مستعجلة فحضر جنود عصابة الحكم التي تدير المحكمة وشركات احتكار إعادة التأهيل على حد سواء. ابلغه القاضي بأن الشركة قامت بإنعاشه ومدَّته بطاقة تدوم لسنوات وسنوات، كما قامت بتغيير بعض قطع الغيار إضافة إلى التزييت والتشحيم الضروريين لاستمرار تدفق الطاقة عبر أجهزته.

رد المواطن زينون على أنه لم يطلب أي من هذه الخدمات علاوة على أنه لم يكن مشتركاً في برنامج الصيانة.

رد مندوب الشركة: بل سمعنا نداء الاستغاثة رغم ضعف الارسال وذلك بفضل تقنيتنا العالية.

صرخ المواطن: لكنني لم أطلب المساعدة
ابتسم مندوب الشركة وقال: عندما تتسمر نظراتك ويبرد جسدك ويتوقف قلبك عن النبض يكون طلب الاستغاثة وافياً للشروط التي أوردتها الدولة في تشريع التأهيل للوحدات الشبه نافقة. وهذا ما ينطبق عليك.

تدخل القاضي وقال: إضافة إلى ما قاله مندوب الشركة يتعين عليك دفع غرامة تهرُّب من عقد اتفاقية صيانة لجسدك. فأنت وحدة منتجة في هذا المجتمع وجزء من منظومته ولا يمكنك التهرب من أعمال الصيانة الدورية التي لم نجدها في سجلاتك.

بعد مداولات وجلسات عديدة طلب المدَّعى عليه أن تزيل الشركة قطع غيارها وأن تعيده سيرته الأولى حيث كان مع قطع غياره الأصلية.

أعجب القاضي بذكاء زينون لكنه لا يستطيع أن يتخذ قراراً ضد مصالح دولة الحكم المستبدة قد يكون سابقة قضائية تؤدي إلى خسائر كبير لشركات الاحتكار التي تدر أرباحاً كثيرة لأصحاب الأسهم. طلب القاضي من مندوب الشركة تقييم أتعاب الشركة ومدى صلاحية المواطن بعد كل التحسينات.

أصدر القاضي حكمه بعد المداولات على النحو التالي: قدرت شركة إعادة التأهل الوطنية قيمة أتعابها بمئة ألف وحدة نقدية. وقدرت استمرارية عمل الجسد بعد التأهيل بعشر سنوات. لذلك قررت المحكمة أن تستغل الشركة جسد المواطن زينون لمدة 40 ساعة اسبوعياً لمدة سنتين حيث تراه مناسباً لاسترداد اتعابها.
أصابت زينون موجة من الغضب وارتفاع مفاجئ في ضغط الدم فتوقفت أجهزته عن العمل كمن أصيب بموجة كهرومغناطيسية مفاجئة أدت إلى مفارقته الحياة. وصلت فرقة الصيانة متأخرة وعجزت عن انعاشه فقررته من النافقين.

استردت الشركة قطع الغيار على الفور كما استولت على بعض الأعضاء التي باعتها لشركات قطع الغيار البشرية تعويضاً عن خسارتها الكبيرة. وجاء في التقرير النهائي لمندوب شركة احتكار إعادة التأهيل الوطنية ” استطعنا تعويض أربعين بالمئة فقط من كلفة إعادة الوحدة البشرية المكناة بزينون كونه نفق في وقت عصيب. لذلك نطلب من القضاء مصادرة أملاكه إن وجدت لتغطية كامل النفقات”

محمد إقبال حرب

5 comments

  1. قصة تأخذك الى عالم الواقع للإنسان ممزوج بخيال واسع ينتمي الى المادة…. ما يميز هذه القصة هو هذا الاندماج التام ما بين الانسان والمادة ويفتح آفاقا واسعة للتقدم العلمي في مجال ال robotique ….مخيلة رائعة وخصبة جدا !!!

    Liked by 1 person

    1. أشكرك د.مايا على عمق قراءتك وبعد أفقك الذي ينهل من المستقبل أملاً.
      كل ما نرجوه من التقدم العلمي أن لا يكون مادياً صرفاً حتى نحتفظ بمشاعرنا الانسانية.
      باقات شكر وتقدير لحضورك الذي أعتز به.

      إعجاب

    2. مساء الخير د.مايا الراقية
      في عصر التكنولوجيا فقد الإنسان بعضاً من مشاعره، وفي اتجاهنا إلى عالم الروبوتيكس سنخسر اكثر فاكثر
      أخاف أن تزحف علينا المادة فتغزونا وتسيطر على انسانيتنا.
      شكري وتقدير لعمق قرائتك وبراعة تعبيرك.
      تحياتي

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s