عصر الحقارة- 1

اللص المقدس

غادرت لبنان سنة ١٩٧٥ قبل الحرب الأهلية بأشهر. عدت مراراً كزائر به شوق للوطن لا يهتم إلا لارتشاف الحب والحنين الذي افتقده في الغربة. ربما كنت أتجاوز عن التغييرات الاجتماعية دون وعي، وربما كنت أتجاوز عنها عمداً حتى لا أنكد صفو إجازتي قدر الامكان. وربما كان بي نوع من الغباء والاستهتار فلم أعر تلك التغيرات قدراً من الأهمية لاعتقادي الساذج بأنها فترة وتعود الأمور إلى سابق عهدها، ذلك الذي عشته.

اخيراً عدت أملاً في استقرار دائم بعد دراسة ظننتها تفي شروط تقاعدي في وطن طالما عشقته. بصراحة لم تكن وافية قدر الامكان ولكن شوقي للوطن أسدل حاجباً فتغاضيت عن كثير. عدت وبدأت رحلة المعاناة.

رغم معرفتي بالتغييرات المادية التي رافقتها تغييرات ديمغرافية مبنية على الطائفية والحزبية لم أتصور عمق الانقسامين الأفقي والعمودي على حد سواء. لم أتصور أن ثمة مناقب وعادات وتقاليد قد مُسخت أو ازيلت لتحل محلها أيقونات شيطانية مقدسة تهزأ من الماضي وتدوس على المناقب.  لم أتصور اندحار الاخلاق إلى درجة الانحطاط البشع الذي يقود رايته رجالات الدولة بفخر المذلة. فكل شيء منظم في لبنان. السرقات منظمة، التخريب ممنهج، إفلاس الدولة هدف، جعل الوطن وطناً طارداً بند اتفق عليه أهل القوة والجاه حتى لا يبقى نبض مقاوم للجهل والطائفية والعدالة… هناك عرف سائد يقضي باحترام اللص الأكبر فالأكبر وصولاً إلى اللص المقدس.

بدأت بالتفكير عن الأسباب التي أدت بنا إلى حيث يجب أن لا نكون.  وجدت بأن الأمور التي يعتبرها البعض تافهة هي الانعكاس الأول لجملة فلسفة الحكم القائم في لبنان. معذرة فأنا أقصد اتحاد أصحاب المزارع الطائفية في لبنان.

بداية سأبدأ من الطريق، من الشارع… والزاروبة حيث يلتقي كل البشر في كل خطوة يتخذونها. من الشارع المليء بالحفر، ذاك الذي تسير عليه المركبات بأنواعها حتى تلك الفارهة التي يفتح شباكها سيد يبدو عليه الاحترام أو سيدة جميلة بالغت في صبغ وجهها واعتنت بمظهرها، فيرمون زبالتهم في الشارع، منتصف الشارع دون اكتراث.

في الشارع تسير السيارات بعكس السير والدركي مشغول بالمحمول أو سارح في مشاكله الاجتماعية. ومن الطرائف القاتلة بحزنها وجهلها، ذاك الذي قتل سائق السيارة المنافسة لأنه “زمَّر” له فأزعجه. والجريمة المستديمة هي الدراجات النارية التي تتصرف كما يحلو لها بعشوائية كبيرة. فلسائق الدراجة النارية الحق في قطع الاشارة الحمراء مثله مثل “الفانات”، وله حق شرعي في الرقص والتراقص بين السيارات، والسير بأي اتجاه يريد دون رادع، دون خوذة واقية، والأغرب أن تلك الدراجات تضاهي السيارات بسعتها. فرأيت ورأيت خمسة ركاب على دراجة واحدة يسابقون الموت دون اكتراث. والأغرب بأن معظم الدراجات النارية والفانات لها غطاء طائفي أو حزبي أو عشائري، لذلك ما أن تعاكسك الأقدار ويحصل بينك وبين سائق الفان أو الدارجة حتى يتجمهر عليك رفاق مسيرته حتى ترضخ وتعترف بأنك مخطئ أو ترى من الضرب والإهانة ما لم تعرفه ذي قبل.

في عصر الوقاحة كانت السيدة الجميلة محجبة، وفي كامل أناقتها تقود “رانج روفر” شبه جديد تسير بعربتها بعكس السير وباتجاهي في طريق  ضيق. أطلقت لها البوق منبها ورفعت يدي معترضاً.  فما كان منها إلا أن ركبت حافة الطريق حتى جاورتني ثم فتحت شباكها وقالت:  ألا تعرف أنا ابنة من؟

تجاوزتها بعدما نسيت أنا ابن من. بل خوف أن تطلق عليَّ النار وتدعي بأنها كانت تدافع عن شرف سيارتها.

كل سيارات الأجرة والفانات في لبنان لا يحلو لها التوقف إلا عند المنعطفات. ولا يحلو للركاب أن يفاضوا السيارات إلا وسط الطريق وويل لمن يعترض حتى ولو كان الشرطي المسؤول عن الأمن.

بعد كل رحلة ولو كانت بضع دقائق أعود ويعود كل الناس حيث وجهتهم وقد تملكهم الغضب وشدت أعصابهم. ثم يتساءلون عن سبب الذبحات الصدرية المبكرة.

سألت أخد الضباط عن قانون السير وتطبيقه فقال لي حرفياً: لدينا أوامر بعدم تطبيق القانون في مناطق معينة… يبدو بأنني أعيش في واحدة منها رغم أنني أرى بأن قانون السير كما كل القوانين الاخرى مهان في كافة أركان جمهورية المزارع، يكفي أن يتصل أحد المسؤولين بالضابط ويقول له ” ألا تعرف بأنه من رجالي؟ ألا تريد البقاء في وظيفتك؟”.

انه عصر الحقارة.

4 comments

  1. مساء الخير استاذ محمد
    لا غرابة فيما تحدثت عنه بألمٍ ممض، فبلداننا أصبح يومها أفضل من غدها؛ لأنها آيلة إلى الانهيار بفعلِ تصدع المنظومة القيمية، تحيتي

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا