المبدع محمد إقبال حرب وتحليقي تعليقا على نفحة من نفحات شاعريته بقلم / كوثر الملاخ

المقطع الشعري بقلم المبدع محمد اقبال حرب
ينازعني الملل في حيز أسكنه يضيق ينكمش… يخطف من وحدتي بقايا عطر قديم يهزأ مني الفراغ يراقصني الضياع وتخذلني الجدران فتبتلع الصدى صدى الأصوات والذكريات أرسم على الجدار فنجان قهوة لا يشاركني فيه أحد أشعل سيجارة… يقتلني مرارها تدور حولي ذبابة لا أسمع طنينها أشنف آذاني… يؤرقني الصمم ابتسمت لها ورسمت لها كوباً آخر أخبرتها عن حبيبتي فركت يديها… نامت على كفي قبلتها… ونمت مطمئناً
محمد إقبال حرب
التعليق
عرفناه القاصّ لحركات مشاعرنا و اضطراباتها و سكنات واقعنا في منطقة الرداءة بل استقراره هناك ..عرفناه مبدع روائع ملتزم ،وها هو دون أن يخلع ثوب التزامه و إزار انشغاله بقضايا العصر و المصر يقف أمامنا شاعرا عمد إلى حبك ايقاع هذه القصيدة داخل أحشائها و نسج موسيقاها في باطنها : فها هي الصور ترقص و تتراقص و تراقصنا و تلك سمة من سمات الايقاع الشعري الحديث يستهلكها المبدع دون إغفال أصالته و هو محق تحديدا في هذا القصيد لأن المضامين كلها عصرية .. يعالج الشاعر هنا ظاهرة باتت تسم زمننا هي ظاهرة الملل و القلق و كل علل النفس المستحدثة من سيطرة المادة فضلا عن الموروثة من الماضي السحيق
فعل ”ينازع ” صوّر الملل موتا و هو فعلا من أنواع المنيّة .تأتي الصور مفعمة ب“عطر ” حزين فالوحدة التي كان لها نكهة تنقشع كسحابة ظرفية خائنة للاستمرار . يشخّص المبدع الفراغ و الضياع و الجدران التي جفت الوفاء فلم تحفظ سرا و لم تحافظ على سريّة بل تصبح شريكة للقدر في جريمة ”ابتلاع ” و امتصاص من الأشياء كلّ هويّة .. من الصوت معانقا الخواء تبتلع الصدى و من الذكريات ذاكرتها النقيّة ..تمتزج الأصوات لتصير صوتا واحدا أسمعه من الباطن آتيا من الخارج وافدا نكاد نجزم أنه اللاصوت أو السكينة الأبديّة
حتى متعة السيجارة صارت المرارة و لا تعجب من الحزن و أسبابه فلا غرابة من هذا الزمن أن يجدّد لنا اختراعاته لماسينا و يستحدث معاناة وسيلته فيها أحب ما لنا و ما فينا : أوطاننا
لكن هذا التكثيف يبدو في البداية مبالغا فيه والحق أننا نعتبره على الصورة الموصوفة بل أشد حينما نقف على صورة الذبابة فنعلم أن الفكرة كلها فلسفة وجودية غير منفصلة البتة عن الواقع. هو صراع الانسان السرمدي مع الزمن ، زمن لا يلوي على شيء و هو يسير حاملا معه الحبيبة و الغريبة ، زمن نحاول أن نفنيه كما يفنينا بمتع ظرفية.. بقهوة تجسد مرارتها وحدتنا.. زمن بدا عدوّا حاول الشاعر تدجينه و استمالته يغريه العاشق بفنجان قهوة مرسوم على جدار كناية عن الثبات و كأنه لما يحدّثه عن الحبيبة يطلب منه ألا يقف في وجه هذا الثبات يستعطفه . و نرى أنه يحاكي القدامى الذين صنعوا الحضارات ”رسما على الجدران ” في محاولة فطرية لتخليد الذات و المجموعة لكن الذبابة عفوا ذبابة الساعة تدور متعمدة السكون معجم الموت حاضر هو غائب يدل على ما يتبع النومة الابدية من فقدان الحس و الإحساس بالمحيط ونبعد أن نقول إن طنين الذبابة و دورانها أيضا نعيشه عدم إدارك ووعي رغم وضوحه للعيان مفارقة حياتنا بين معرفتنا بمرور الزمن و غفلتنا عن مروره ربما تفضح مفارقة أخرى هي ما نعيش فعلا و ما نعيش وعيا و في الافتراض هما متطابقان بينما يتضدان في كثير من الأحيان
هذه الساعة ”فركت يديها ” لما سمعت تراتيل العشق الحبيبة هنا أنثى غائبة ”عن حيّز ضيق يسكنه الحبيب ” ربما هي الحسناء الأرض زففناها إلى مرقدها الأبدي و بقيت ذكراها فحسب تعطر الأرجاء فرك اليدين تذكر ببعض الأساطير حيث يفرك الساحر يديه فتحدث المعجزات و فعلا يتوقف الزمن على كف الإنسان العاشق و يعيش رحابة الحلم فرارا من ضيق و قلق وسما بدء القصيدة .. قصيدة نرى فيها بنية سردية وضع بدايتها هدوء لا تتبعه سكينة و وضع ختامها طمأنينة ذكرتني بالاية القرآنية التي دعا الله فيها ”النفس المطمئنة ” بالرجوع إلى ربّها .. حالة ما بعد الموت يصورها المؤمنون ذاتهم حالة مفزعة رغم ايمانهم بأن جوار الله أفضل و يراها المبدع محمد إقبال حرب الوضعية الوحيدة للرضا . و بين البدء و الختام نجد سياقات تحوّل يطلقون عليها لفظ العمر و هي لعمري عند الذات الشاعرة و كل ذات شاعرة بمنزلة المرء في الكون ضياع و فراغ .. إن الحقيقة في عالم لا تسكنه ذبابة و لا يحده ”حيّز ”
مبدع الروائع محمد اقبال حرب أرى روحي تراقص كل صورة بملء كيان حزين يعيش ما تعيش و لقد حذقت التعبير عنه في نكهة الأنين و كنت أرى قبلا الحياة فنجان قهوة مرسوم على جدار لا أستمتع به و لا يشاركني فيه أحد لكن لما وجدت مأساتي موزعة بين فناجين عدة و وقفت على مرارة قهوة مشتركة لا نستمتع بها لاغترابنا و وحدتنا لموت الضمائر و رحيل الإنسان إلى فيافي المجهول و عجزنا عن الالتحاق به هان الخطب و خفّ ما ثقل عليّ … لن أقول هذه رائعة من روائع قلمك بل أقول هي نفحة من جنة ضائعة : وجدان ، فكر، وجود ،عمق ، لا تشهده عند غيرك بمثل هذه النكهة و قديما قالت لي صديقة ”أراك فأدخل عالمي ” و ظللت أستعير هذه العبارة عن اقتناع اختلفت نسبته لكن بلغت اليوم ذروته لما دخلت عالما فيه جميع خصائص زمن جئناه و لكنه غير جدير بنا عالجت علله بالحبيبة و ذكرها و لذت بالوجدان لتحقق الاطمئنان لكن الأرق يظل قاعدة و النوم استثناء
هذه المقطوعة جديرة بأن تثبت على جدار ذاكرة ليست بصرية بل من البصيرة مأتاها و مرجعها ..شاعريتك تنفذ إلى مسائل عجز الدهريون و القدريون و غيرهم عن الإجابة عنها . شاعريتك تثير جل الاستفهامات التي يطرحها القدر علينا. شاعريتك تقدم الرد الذي ًيوقعك في حيرة جديدة تشي بقدرتك على تحريك الكوامن فهنيئا لنا بك ناثراً و قاصا ” “وشاعراً لكل ما تقدّم و ما تقدّم يعدّ ”غيضا من فيض 

5 comments

اترك تعليقًا