يتسلق السنجاب جذع شجرة السنديان متباهياً بخفته ورشاقته بين الأفنان والأغصان. أرقبه يتسلق أركان الشجرة صعوداً وهبوطاً دون كللٍ أو ملل ملتقطاً ثمر البلوط بفرحة اللقاء. يمسك الثمرة قبل الشروع بتفكيك أواصر ثمرة البلوط جالساً على قدميه فيما يعقف ذيله كغديرة ابنة الجيران التي كانت تشاكسني أيام الطفولة خاصة وأن وبره المدبب يشبه شعرها المجنون. أراه يحرك رأسه بطريقة غريبة تشبه حركة رؤوس سكان المدن العربية الكبرى وهم يتيهون بين شارع وزقاق بحثاً عما لا يعرفون. دائماً ما تسفر حركات السنجاب عن التقاط مؤشر يوصله إلى ثمرة بلوط في مكان ما ، أما أجهزتنا فلم تستشعر بلوطة حياة تُنهي أضغاث الكابوس الذي لا ينتهي.
تصرفات هذا الحيوان القارض تثير فضولي فهو لا يتوقف عن الحركة وتقشير ثمر البلوط القاسي بمخالب حادة فيما كل عين من عينيه تعارض الأخرى. كيف لا يؤذي نفسه بل كيف يركز؟ أزعجني الأمر إذ رغم امتلاك بني أمتي عيوناً جميلة تعمل دائماً في اتجاه واحد دون خلل أو كلل لا يستطيعون تقشير بلوطتهم دون أذية أنفسهم، هذا إن حالف الحظ أحدهم ووجد تلك الثمرة ولو تحت لحد قديم.
راقبته كثيراً، حسدته، مقته لما ينعم به من ميزات جسدية تجعله ليق البدن، رشيق الحركة تجيز له الفوز بثمر البلوط بعد كل صعود وهبوط كمحفز على استمرارية الحياة السنجابية. دائماً ما يجد بلوطة ما تحت صخرة أو بساط حشيش، بين حجارة الغابة أو متاهاتها المعقدة فيما نسير نحن البشر في متاهات عمر مديد باحثين عن بلوطة واحدة دون جدوى. ربما لأننا لم نتعلم الصعود أبداً منذ بداية عهد الانحطاط المنبثق من عصر العبودية الأزلي الذي كرس المذلة فأضحت من شيمنا. لم يحظَ أحدنا ببلوطة ولو يابسة منذ أمد بعيد، بل لم يعثر على قشرتها شريد حتى يجمعها حطباً لشتاء قارس. فالشتاء عندنا مضاعف البرودة إذ فقدنا الدفء منذ بداية عصر الكراهية، عصر التكفير بوجودنا وانسانيتنا فغدت قلوبنا غلف كما أرادها الحاكم المستبد الذي صادر مصادر الطاقة المادية والروحانية في آن. لم تعد تسري في قلوبنا حرارة إلا بدفع السياط التي تلهبها حاشية السلطان على أجسادنا عربون ولاء لسلطان نُسلم بقداسته ونستمد رمق الحياة من بقاياه رغم نجاسته. لا يتوقف جلد أحدنا إلا عندما يعترف بالولاء المطلق، ومن لا يعترف يتولاه سخماط الزبانية بالإقناع.
السنجاب لا يهتم بأحد، دائماً ما يجلس على مؤخرته عاكفاً ذيله بكبرياء غديرة ابنة الجيران ويستمتع بثمرة البلوط بين مخالب جارحة وأسنان حادة دون الاكتراث لما يدور حوله. غرت منه وتمنيت أن أتحول إلى سنجاب يجد ثمرة أتعابه حيث يجدر به أن يلقى ثواباً. لكن بعد تمحيص وتدقيق وجدت بأن الأمر غير مناسب، ليس لأنني إنسان وهو حيوان وليس لأنني لا أملك المقدرات السنجابية المذهلة، بل لحقيقة استرجعتها قبل الغوص في كيفية التحول السنجابي. فقد قالت الكتب السماوية بأن الله خلق الإنسان على صورته، وبما أنني إنسان كما صنفني العلماء آمنت بأنني مميز بنفحة إلهية وأستحق التكريم على هذا الشرف العظيم. ميزة قال عنها مدرسي ورجل الدين كفيلة بأن تضعني على قمة هرم المخلوقات وبأن من سيراني سيتذكر الله ويكرمني.
لكن الغريب هو أنه لم يكترث أحد لصورتي كإنسان يحمل ملامح وجه الله ولم يتذكر أحد الله في غيابي أو حضوري. بل لم تنهَ تلك الحقيقة أحد عن احتقارها، جلدها، بل استعبادها واهانتها. الحقيقة هي أنه لا أحد يعرف الله ليرى صورته في إنسان. ولذلك لا أمل في بشرية هؤلاء المنافقين الذين يسرقون ثمار الحياة باسم إله لم يعرفونه قط.
محمد إقبال حرب
قصة جميلة، فيها ما فيها من دروس و عبر لبني البشر. فالسنجاب يعلمنا الإصرار عبى بلوغ هدفه. أسلوبك شيق و صياغتك رائقة كما عودتنا دائما دكتور محمد.
إعجابإعجاب
شكري وتقديري استاذ رفيق الكاتب القدير.
الحكمة تقتضي بأن نتعلم من اي كائن يدب على وجه الأرض فكلنا يسعى للتحليق ككيان كامل.
تحياتي وتقديري
إعجابإعجاب