في طريقي إلى حيث لا أدري، سقط شيء في حِجري. أمسكته متفحصاً، بدا أنيقاً مألوف الشكل، لكنني لم أعرف ما هو. سألته ما أنت؟
قال: أنا هلال العيد وقد جئتك مبشراً.
قلت:أي عيد، بل من أين أتيت؟
.قال: أنا بشرى عيد الفطر تهاويت إليك من السماء كما أُمرت.
قلت : أي فطر ونحن صيام أبد الدهر؟
.قال: أنا هلال شهر شوال… أنا بُشرى العيد.
.قلت: وكيف تريديني أن أحتفي بك وأنا صائم. ألم أقل لك نحن قوم لا نفطر.
.قال: كفاك كذباً، تقول إنك صائم أبد الدهر، ومازلت تلوك بقايا لقمة سائغة كما يبدو.
قلت: إذن ماذا؟
قال : أنت في شهر رمضان… ألا يجدر بك الصيام
قلت: يا هلال أترى أن الصيام هو امتناع عن الأكل فقط؟ ألا ترى الصوم عن الحرية صياماً، الصوم عن العزة والكرامة صياماً، البعد الأزلي عن الوطن صياماً؟ ما بالك تشغل نفسك في طعام لا أسعى إليه إلا كي أُبقي مجري الأكل سالكاً علني أستسيغ طعم العودة ذات يوم.
قال: هل يعقل ما تقول يا هذا؟ لا أدري لماذا وقعت في حِجر رجل لا يصوم، بل لا يفرح لبُشرى عيد؟
قلت: ربما وربما وربما.
قال: صه… إنك تكثر الأحاجي في حضرة بشراك.
قلت: كيف لي أن أفرح وأنا عائد من مدفن جماعي، وسمائي تغطيها غيوم سوداء تحمل بقايا أبنائي؟ كي أستقبلك وأنا أتسول بقايا وطن؟ كيف أمسك بك فرِحاً وما أنا إلا رقم… بل رقم غير معترف به حتى في سجلات الأمم المتفرقة.
قال: كيف تُسلب هويتك وهي جزء من ذاتك؟ ألا تعرف من أنت؟
قلت: لا يكفي أن أعرف من أنا. البشر لا يعترفون بالمشردين اللاجئين. لم نعد نحمل أسماءً منذ أن توارثنا الطغاة. ألم أقل لك ما نحن إلا أرقام مسجلة في درب الأموات.
قال: كيف تكون في سجل الأموات وأنت حي ؟
قلت: سجلات العدو والحبيب تكتبنا “أهداف للقتل”، وعندما نُقتل بأي وسيلة يكتب على السجل “انتهينا من لعين آخر”.
قال: ومَنْ يقتلكم؟ لقد أخفتني… قد يقتلونني فيموت العيد.
قلت: لا تخف، أنت لست صاحب قضية، ولا صاحب أرض مسروقة.أنت لا تريد العودة لتقطف حب الزيتون أو تعيد ترميم قطعة فسيفساء شوَّهها الطغاة. أنت لا تسعَى للصلاة في كنيسة القيامة أو في المسجد الأقصى… ما أنت إلا عابر سبيل.
قال: وكيف أعلم بأنك صاحب قضية من أرض مسروقة.
قلت: سل الأرض عني وحبات التراب، سل ينابيع الماء وسحب الهواء، بل سل روافد الأنهار التي تغذيها دماء شهادئنا، واسأل السماء لماذا أصبحت داكنة يوم أحرق العدو جثامين الأطفال، يوم دمر بيوتنا واقتلع شجر الزيتون كي يقتلع جذورنا.
أخذت نفساً عميقاً أقلق الهلال فهب لنجدتي لكني زفرت آهاتي بعزة الشموخ: أيها الهلال القادم من بعيد السماء لا تخف على وجودي فجذوري ثابتة بين كل حبة تراب وأختها لأنني من الأرض ولها. أنا والأرض سواء، أنا أزلي في أرضي بل هي أزلية في كياني.
قال: لقد حيرتني يا هذا أأنت طريد أم في عداد الأموات؟ أأنت في وطن أم شتات؟
قلت: نحن شعب لا يموت بل يسقي الأرض نجيعه حتى الفناء فتضمه اليها قطعا واشلاء. حتى في شتاتي أسكن كيانها ولن يموت أحدنا بل لن يستطيعوا أن نزع وجودي من وجودها. لن أفطر إلا على مائدة الحرية فوق ترابها المقدسة. قال: كل عيد وأنت حر.
مر عابر سبيل، ناولته الهلال صدقة عن بقائي حراً… ولم أفطر بعد.
محمد إقبال حرب
26 آب 2014
كعادتك …تتألق بكتاباتك
انطلقت من امر ملموس لتعبر عن قضية جوهرية مهمة
شكرا ليراعك المبدع
إعجابإعجاب
شكري وتقديري د. درية على رأيك الذي أعتز به
وعلى عمق قراءتك النابعة اهتمامك الجوهري بالانسان وقضاياه
تقبلي بالغ تحياتي
إعجابإعجاب