الوحدة قاتلة

 وصل لويس الكولومبي لتوه إلى بهو الفندق من النادي الرياضي سيراً على الأقدام في جوٍ تتجاوز حرارته الأربعين درجة. كان يتصبب عرقاً والمنديل الأبيض الصغير يلتف حول صلعته ليرتشف روافد عرقه قبل أن تتبخر. أمسك زجاجة الماء ليعوض عما خسره من سوائل بين الرياضة والحر. جلس إلى جانبي في ردهة الفندق الذي نسكنه في مدينة الخبر في لفتة اجتماعية أحتاجها في بلاد الغربة مع طيبة مشاعره التي لامستها في جلسة سابقة جمعتنا مع مجموعة من رواد المقهى. هذه المرة كنا وحيدين، جرنا الحديث إلى الروايات والموسيقى فالمشاعر الإنسانية التي تصورها الأفلام المأخوذة عن قصص واقعية. أخبرته عن أحد أفلام روبرت دي نيرو دون أن أتذكر اسم الفيلم الذي جسد فيه مريض الزهامير وصراعه بين الذكرى والنسيان. هنا توقف قليلاً وغطت سحنته السمراء شحنة من الحزن تجلَّت عبر لحظة المغيب. صمت قليلاً محاولاً الابتسام لكن انسدال عينيه وأخذّه نفساً عميقاً ومضا بشحنة غريبة من التساؤلات والتكهنات التي يزمع أن يبوح بها. نظر إليَّ متسائلاً وقال: هل أخبرتك عن الحادث الذي أفقدني الوعي بعدما وقعت عليَّ شاحنة وأصابتني بكسور جمة لم أستطع بعدها استعمال رجلي لفترة طويل تم خلالها وضع مسامير وقضبان حديدية كثيرة في أماكن عديدة في جسدي. بصراحة تذكرت أنه في الجلسة السابقة قال شيء من هذا القبيل لكنني لم أذكر التفاصيل ولم اشأ ان أسأله عن التفاصيل نظراً لما اعتراه من غم لتلك الذكرى فقلت: نعم.
لم يكترث لإجابتي وكأنه يريد أن يتخلص من كابوس ظنني قادر على حمله عنه فتابع قائلاً: في غيبوبتي التي امتدت 21 يوماً كنت بعيداً عن كل شيء. كنت أرى أحلاماً تتردد بصفة دائمة.
قلت بعفوية: جيد.
قال: رأيت نفسي على سطح المريخ حيث أرسلتني وكالة ناسا الفضائية لأن الجاذبية أقل بكثير من كوكب الأرض فأتمكن من السير بسهولة. اختاروني ليستفيدوا من خبرتي لأنني مهندس جيولوجيا إذ لم يرغب غيري بالذهاب في رحلة ذات اتجاه واحد. كان كل شيء متوفراً، أتواصل مع أهلي عبر الانترنت وأحصل على غذائي كما أستطيع مشاهدة التلفاز. لكن ما كان يؤرقني هو عدم القدرة على العودة التي كانت محرمة عليَّ كما نص العقد في الحلم الذي يعيد نفسه بين الفينة والأخرى.
صمت لبرهة يصارع فيها الدموع التي غلبته فأجهش بالبكاء كطفل فقد أمه وصندوق الحلوى في آن. لم يتمالك السكينة لفترة طويلة إذ كان لبوحه بقية أراد أن يفضي بها، سر آخر عايشه كالحقيقة كما الحلم السابق فتنهد وقال في حلمي الثاني الذي تردد كثيراً كنت أعيش وسط المحيط كالأسماك أسبح وأتنفس دون إعاقة. تصاحبت بعدها مع الدلافين وبتنا نتواصل بشكل غريب إلى أن اكتشفوا مكانا مريباً من صنع البشر. تباحثوا معي في الأمر بعدما أخبروني بأن المشروع يسعى للقضاء على الحياة البحرية في تلك البقعة عن طريق زرعها بالمتفجرات. تبرعت بالذهاب إلى تلك المنشاة وتفكيك المتفجرات لأنقذ نفسي وأصدقائي. نجحت في فك الألغام وعندما قررت العودة انفجر لغم وبتر رجلي ولم أقدر على السباحة بعدها.
أخذتني الوهلة كون دماغه يجد أسباباً لتفسير عدم قدرته على تحريك قدميه فقلت له: كم هو عظيم هذا المخ الذي يعمل حتى في غيبوبتنا ليبرر ضعفنا ويعطينا القوة على الاستمرارية. تكلمنا بعض الوقت عن هذه النقطة وتعابير وجهه تعود بي سنوات طوال إلى حيث كان، كان وجهه يرسم تعابير الماضي بفن ودهاء غريبين. قرأت الكثير من معاناته واصراره على الحياة حتى أصبح يسير بصورة طبيعية ما كان لي أن أخمن سرها لولا بوحه.
نظر إليَّ نظرة عميقة وقال: أتعلم شيئاً؟ لم أرَ الله أو أقاربي الموتى خلال غيبوبتي ولا أدعي بأنني رأيت نوراً آخر الدهليز. لا لم يأتِ أحد ليسامرني أو يأخذ بيدي إلى العالم الآخر كما يقول كثير ممن غابوا عن الوعي. لكنني كنت سعيداً، أعيش الغيبوبة حلم سعادة، لا أشعر بالجوع، بالعطش، بالتعب أو بأية مسؤوليه. فقط كنت أعيش في سكون حتى مع الأحلام التي أخذتني إلى عالم الوهم.
قلت: إذن لم تكن تلك الغيبوبة بتلك السوء بل ربما كانت تجربة أعطتك الكثير من السكون والتفكر في كينونتك، بل ربما أعطتك نوراً من قبس الحقيقة.
دمعت عيناه بغزارة هذه المرة وارتعشت أنامله وارتخى خداه وهو يقول: الوحدة قاتلة حتى في رحلة الفناء… الوحدة قاتلة.

محمد إقبال حرب

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s