عَتَبي على الليل

عتبي على الليل بأحزانه التي يسوقها من كل حدب وصوب. يجمعها طيات حزن في بحر دموع لا حد له. روافد لا تنتهي من عيون البؤساء والثكالى، جراح المضرجين بسياط الطغيان… من عرق المساجين القابعين في دهاليز الوجدان الميت يشتمون رائحة الضمائر العفنة.

تتسلل الآلام إلى خلايا وجودي منذ أمد طويل… لا بل منذ ولادتي. يوم ولدت أنثى اكفهرت وجوه من حولي… وسقط من يد أمي فشلها في إضافة عضو صغير بين رجلي يرفع رأس أبي فخراً.

يومها كانت ذكرى النكبة… التي جددتها ولادتي بنكبة عائلية. ذكرى النكبة الكبرى، نكبة من نكبات لا تنتهي، نكبة تنخر جسدنا البالي، ترزح على قلوبنا وتمزق كياننا بسكين عدو  أضفى لها اسما جديداً “مشكلة الشرق الأوسط” مختصراً الاحتلال والقتل والتشريد بكلمة !!!مشكلة. صفقنا له وقبلنا يده كي يحل تلك المشكلة

يومها كانت ولادتي نكبة جديدة توصم وجه العائلة بعجزها عن توليد ذكر آخر يحمل بندقية الثأر من العائلة المنافسة.

توالت النكبات حارقة وجداني بكتل براكين الجهل التي تفور وتثور من كيانات متناحرة في كل شيء. متناحرة في السطو على مقدرات بعضها، متقاتلة لدحر أي فرصة نجاح عند الطرف الآخر ساعية لتثبيت ركائز الجهل والعصبية القبلية. توالت نكباتي بداية من طرد أبي من العمل إلى نكبة موت أمي ومن ثم نكبة زواج أبي مرة أخرى…. ثم هزيمة ٦٧ التي أعطيناها رمز نكبة جديدة.

 توقفت عن عد النكبات بين جزر ومد وسرت في الحياة خطى كتبناها بالذل والعار بإصرار وعناد، لكننا مسحنا ذلك برفع المسؤولية وأعدناها إلى رب العالمين قائلين “كتبت علينا خطى، ومن كتب عليه خطى مشاها”… وما زلنا نمشي حفاة عراة منهوكي الكرامة والوجدان دون قطرة أمل تغسل ماء الوجه.

أي وجه؟

فرحنا بهذا الحل الرباني والقينا في قفته كل آفاتنا ورمينا به فشلنا مرفوعي الرأس دون خوف أو وجل. إنه المكتوب… يا ويلتي كيف يكتب الله الذل على عباده “المؤمنين” ويترك “الكفار” آمنين؟

لكننا بعد هذه الصحوة التجأنا إلى أصحاب العلم الخفي الذين أشاروا علينا بالتقية والوقاية، فعلقنا على زنودنا الحجابات المكتوبة بالزعفران. واستعذنا بالجان واحتمينا بالأمريكان.

وصلت المعونة إلى بغداد فدكتها دكاً نبش رفات الرشيد وأفقده رشده، وقلبت موازين الطبيعة فجعلت الربيع خريفاً والعدو حبيباً.

تكررت الحكاية بتفاصيل مختلفة في دمشق وطرابلس خوف التكرار والملل. نُبشت رفات الزبَّاء وعمر المختار في وضح النهار دون شكوى أو مظلمة, وكرَّت المسبحة فَرْط عقد متناثرة. تعلمنا بعد ذلك بأن أسباب جهلنا “قيمنا القديمة” فنبذناها وتعلقنا بقشور مستوردة. كرهنا كذلك “لغة العربان” فاعوَّج لساننا ورطَنَّا بلغة الغرب كيفما كان… ضحك علينا العلوج وهزئ بنا من بقي صامداً دون التواء.

لكن المآسي علمتنا الفن الحديث فقطعنا رؤوس الأحبة والجيران ولعبنا بها الكرة بعد أكل الاكباد وانتهاك الحرمات. واتهَمْنا الجميع بالكفر حتى أصبحنا أولياء الله على الأرض، نحكم فنطاع ونقتل ليذاع صيتنا عبر البقاع. وهكذا حصل.

قيل إننا عدنا إلى عصر الغاب … قلت ليتنا نتوقف عند هذا الانحدار.

نُشرت في صحيفة الوطن العربي بتاريخ 21 حزيران 2014

http://www.alwatanelaraby.com/2014/06/blog-post_2902.html

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s