فجر جديد بشمس قديمة ترفق بي وحملني إلى ناصية رابضة في قلب الإسكندرية النابض بالحياة. ومع أنني أقطن هناك منذ وجودي على سطح البسيطة إلا أنني وجدت نفسي في مكان أعرف جماده ولا أدرك كيانه. كل شيء على رتابته، في مكانه لكنه بدا حياً كما لم يكن من ذي قبل. نَبْضُ حياة يتغنى فرحاً، عالم جديد ينبلج من المستقبل، وكأنما دبت فيه حياة فأضحى كياناً. ها أنا أستشعر روحه، أدرك أنفاسه… لا ليس غريباً فاليوم يوم المعجزات كما أرى. فقد صحوت من سباتي حراً، وأفقت على بسمة تعلو شفتي. لم أخف من المجهول ولم ألعن وجودي بعد صلاة الفجر وقبلها كما كنت أفعل …. إنه 12 فبراير.
وقفت برهة على الناصية أجوب ببصري بين هذا السبيل وذاك وجلا علي أستدرك روح اللحظة. علي أستلهم من هذا الشارع أو ذاك دليلاً، فقد اختلط علي الجمال وروحه. أخذني الضياع برهة قررت بعده أن أفاوض نفسي إلى أي الشارعين أمضي مستكشفاً. غير أن برودة الجو حسمت الجدال بيننا فآليت أن أقف عند ركن قصي على الناصية عله يحميني برد الشتاء، وقد فعل. لكنه لم يحميني من زغاريد الأمس المتشبثة في ذرات الهواء احتفاء بيوم النصر، أو من رذاذ الفرح المتساقط من الشرفات تيمناً بمستقبل مشرق. تساقطت عليَّ بعضٌ من بقايا زغاريد النساء وهتافات الرجال من سماء الحرية الصافي فأيقظت في كياني بهجة نائمة ارتعشت لنسيم البحر الهامس بين الحواري. أخذتني نشوة غريبة أثقلتني سعادة فجلست على ناصية الرصيف دونما غضاضة.
سَرَت في جسدي سعادة بالغة وتناولتني قشعريرة أمل طغت على عمر كئيب مضى. لكن جذوة من الماضي بدأت تنغل في أحشائي مؤرقة بحيرة أحلامي. لا أعرف لماذا يبقى العمر الكئيب كئيباً حتى عندما نحاول تزيينه بسعادة الحاضر. ولا أدري لماذا يقفز الماضي دونما استئذان الى واجهة الحاضر ويرمي حصاه في بئر لا نزال نحفره.
ها أنا أحس بقشعريرة من الماضي تلامس جسدي فتتسارع بين وجناتي ذكريات رجل مكسور الجناح، خائن جبان كان يمر من هنا بكبرياء مغشوش وسعادة مصطنعة. ذاك الرجل دفنته في مكان ما تحت أقدام الثوار قبل بضعة أيام. مات أنا… بل قتلته ولم أصلي عليه. رحل دون وداع أو قيام جناز… كان بغيضا يحتل كياني مذ أخذت نَفَسَ الحياة الأول. قتلته فتحررت منه كما ظننت.
وكأنما أفكاري قرأت طلاسم البعث فعاد إلى الحياة واقفا أمامي. وقف ذليلا كما عهدته أبداً، بكيان رث ذليل مقيت. يحمل بين وجناته قهرا، يتزين بالفقر والخنوع. يا لهذا الأنا الطريد، يا لهذا العائد من قبور العار…لا, لا, لا أريد أن أعرفه , لا أصدق عودته.. ألم أقتله؟
صرخت بوجهه ارحل، أَشَحْتُ عنه بصري وبصيرتي . حاولت الفرار من كابوس عمري لكنه كان في كل مكان. في مجال بصري، حول مشاعري الدفينة في ثنايا جسد يحن الى ساكن قديم. أغلقت منافذ كياني أمام جموحه الذي يريد الالتحام وعودة الوئام. تجاهلته، نظرت بعيداً إلى الشارع الممتد بين البحر واليابسة عبر أمواج البشر الجميلة، والبيوت البراقة. تتهافت عليه أمواج البشر بحب وسعادة… ذاك الشارع الذي كان أراه لأسابيع خلت قذراً متخلفاً تجوبه شعوب لا أعرفها، بالتأكيد هذا مكان آخر غير الذي أعرف… فهل قتل هو الآخر محتلاً كان يرزح فوقه لعقود خلت؟ أوليست الأماكن هي انعكاس لأرواح ساكنيها؟ نظرت التقاطع الآخر علي أجد ازدحاماً فأندس بين الخلائق وأترك القادم من عالم الفناء وحيدا… عله يرحل. هممت بالوقوف عندما سنحت الفرصة فوجدته متأهبا للانقضاض علي واحتلالي من جديد فتقوقعت على ذاتي أجمع ملكاتي كي أصارع الحياة في بقايا الأموات وصرخت به: ارحل
فضحك بشماتة العهد البائد وقال: أنا معك , بدوني ستفشل … أنت طفل صغير مدلل.
قلت: العبيد لا تتكلم أمام الأحرار… أعرف الآن بأنني إنسان, ألم تحاول أن تبقي حقيقتي مجهولة؟ ألم تخبرني دائما بأنني عبد ذليل عديم الحيلة؟ لقد عرفت السر… وجدتني حراً وسأبقى.
قال: على رسلك يا هذا، فهذا جسدي وأنت عبدي منذ الأزل.
أجبته: أيها القادم من عهد القهر والعبودية لن تفهم. أنا مولود جديد وأمي حرية. ولدت في كل الميادين، في كل المدن والحواري. عند كل ترعة ونهر… عند منابع الظلم والقهر. تمخضت بي حريتي عبر السنين وما أنت إلا ماض عاش ذليلا بين سياط الحاكم وقذارة المحكومين.
قال: انظر إليك تتألم بينما تحلم. انظر اليك واهن واهم. ألم تصرخ وتنادي: الشعب يريد اسقاط النظام. وها قد سقط.
لم أدعه يكمل كلامه وقلت : إذن ارحل، عد حيث مت وتحلل.
لكنه عاود الكلام بجرأة عجيبة وقال: أنت واهم يا هذا ألم تسمع النظام يقول : النظام يريد إسكات الشعب. سيعود اليكم بثوب جديد وقالب جديد. خرج من الباب وسيدخل من الشباك. أجل سيعود بألف حلة وحلة. المستبد يا هذا لا يرحل إنه قابع فوق كيانك، استسلم له مسالما قبل أن يلهب جلدك بسياطه كما كان يفعل أبداً. كن حكيما ودعني في جسدك أعلمك فنون الطاعة ومعاشرة السلطان.
جاش كياني، تفرقت أحزاني وصرخت في وجهه: يا هذا بين الإسقاط والإسكات شهداء وتضحيات. بين الإسقاط والإسكات جدار جبار من العزة والكرامة لا تنقبه آفات المستبدين. عالم من الحرية لا يفهمه الأموات. بين الحرية والعبودية برزخ من شموخ لم تعهده. عالم خالد حر كريم لم تحلم به قط. يا هذا من سقط في غيابات السحيق لا يعود… تكسر القيد، انهارت السجون وانطلق انسان حر ليبني وطنا… لقد انتهيت وانتهي النظام الذي صنعته أنت وأمثالك بخنوعك, بسكوتك وجهلك… أجل تحررت الأرواح وضخت القلوب دماء الشهداء في أرض الوطن وغاضت الأرض ببراعم الحرية… انظر حولك زهر الشموخ والإباء…ألا ترى فوق الرؤوس أكاليل الغار تفوح عبق الحرية وتسطع بنورها…
أعماه نور الحرية وقتله عبقها… تلاشى الأنا … أخذته رياح العدم قبل أن يدنس أرض الوطن.
وولدت من جديد على أرض طاهرة.
محمد إقبال حرب
15 فبراير 2011