من يحاكم السلطان
في قديم الزمان كان المستبد طاغياً وكان يُعرف بالسلطان. وما زالت الكرسي تورث من ظالم إلى مستبد ومن طاغية وظالم إلى وريث بالمجد حالم كي يحكم بالحديد والنار ويزرع الخوف والرعب في كل من هب ودب. حتى اختلفت الأزمان وتمنى الموت من شعر بأنه انسان. وقالوا بأن الحرية هي الفاصل بين الإنسان وأخوه الحيوان الذي صنعه السلطان. لذلك بدا الحلم يكبر والقلب يدق بالعنفوان، يضخ الثورة حتى انفجر البركان، فانتفض الشعب من كل مكان وخلع من كان في كرسي الاستبداد والاستعباد. اُدخل السلطان سِجناً كان قد بناه لترسيخ سلطانه وإهانة الإنسان. أبوابه مَذَلَّة ساطعة وألوانه عدالة هزيلة، له حيطان من جلود المعذبين مُعَلَّقة بأنياب الذئاب وأسواره يحرسها شيطان.
بدأ النقاش بين الثائرين عمن يحاكم السلطان. فمنهم من يراه مخطئا ذنبه قد يُغتفر وغيرهم يرى بأنه شيطان لا بد أن يُعَاقَب ويُهان. وبين أخذ ورد زاد النقاش واحتد فأصبح الانتقام أقرب من العدالة مما أستدعى أهل الجوار للبت في هذا الحوار. فتدخلت هيئة البلدان بما فيها من إنس وجان لترى من سيحاكم السلطان، قاض من الإنس أم محايد من الجان. فهو من أهل البشر بالشكل والألوان، يأكل مثلهم وينام، لكنه سرق وغدر، قطع وبتر كأشرار البشر . فلا بد أن يحاكمه إنسان. لكن الشياطين اشتكت واعتبرت ما قيل حقيقة مجحفة متعسفة، كما أبدت من بني البشر تأففا. قالت بأن الحاكم ساد بشرع الشيطان فأذل واستعبد الإنسان. والمخلوق كما هو يَعْتقِد لا كما به يُفتَرض. وقبل أن يشتد الخلاف أمر رئيس هيئة البلدان أن يكون القاضي من الجان والمُدَّعِي بشر والمحامي شيطان.
قال المُدَّعي: يا قاضيا من غير البشر لن أطيل الشرح وأزيد في الكدر. فهذا السلطان لم يترك جريمة لم يقترفها أو مُوبقة لم يفعلها. لقد سرق أحلام الطفولة ومزَّق البراءة الخجولة. لقد هتك الأمومة في صدور الأمهات فداس على فلذات أكبادهن وهنَّ ناظرات. كما سرق الخبز والماء من أفواه الفقراء والمال من جيوب الأغنياء بل وضع النير على أكتاف الرجال وعَلَّق على رقابهم حجارة القهر والذل والعبودية… لقد بصق في وجوه الشرفاء وأجبرهم على التصفيق والغناء.
وقبل ان يتم الكلام وقف محام من الشياطين وقال: يا معشر الإنس والجان هذا السلطان ما كان يوما إنسان. صحيح بأنه يبدو كالبشر لكنه مثلنا قلبه حجر. همه همنا وصلاته لنا ولولا الخوف من التدليس لقلنا بأنه إبليس. فعلى عهده ازدهرت شياطين البشر وازدهر العهر وانتشر. في عهده مات الأمل في قلوب الناس وذبلت أوراق الحب وأينع الحقد وأزهر. لذلك فهو سيد من بني شيطان ولا نرضى له ان يهان.
بعد مشاورات في غرفة مخفية تحت ظلال الجحيم وقف قاضي الجان بكل ثقة وإتقان وقال: ايها الثقلان لا تختلفان فهذا السلطان تائه غلبان فلا يدري أهو إنسي أم شيطان. أجل لقد كان جاحداً في حق البشر فظلم وجار وأصابهم بِكَمٍّ من الكدر لكنه أرسى للشيطان مراسي الرذيلة ومُحِقَت في عهده الفضيلة. وحيث انه مصاب باضطراب لا بد ان يدخل مصحة في بلد بعيد تحت اشراف المحكمة التي ستعين له طبيبا يسبر خباياه ويدرك نواياه حتى يستطيع العدل ان يأخذ مجراه.
ولا زال في المصحة سجين منذ آلاف السنين دون الوصول إلى خباياه.
محمد إقبال حرب
نُشرت في 25 حزيران 2011 في صحيفة الوطن العربي:
http://www.alwatanu-alaraby.com/News/News.asp?id=60