هذا اليوم كان مختلفاً، بدأ مع سطوع شمس حارقة ترافقه رطوبة مالحة، تشوي أجساداً كالحة فتنضح آبار العفن البائسة قيحها عرقاً. أجساد كرهت نفسها فتسللت روائح حقدها المكبوت كريهة من مسام يابسة تتناثر بين ندبات دمغتها سياط السيد العظيم بختم ملكيته فأضحت الأجساد ملكاً له بثمن لقمة عيش لئيمة.
عاد العمال بعد يومهم الشاق تجرهم أرجلهم إلى زريبة وجودهم غير آبهة بما جنته ذلك اليوم من طغيان تآخت معه بعبودية أسماها رجال الدين ابتلاء. لكن السخط والغضب اللذان أرهقا تلك الأجساد صب جام غضبه على الأحذية انتقاماً. نزع العمال أحذيتهم بأنامل متحجرة ورموا بها إلى جدار القبو بعنف شديد يصدر صوتاً مجلجلاً كمرفقعات تفجِّر كيانات خيالية رسمتها عقولهم الباطنية على جدار الوهم تـُمثل رب العمل فينتشي كيانهم لوهلة تخبو حالما يجرون أقدامهم إلى حيث يرقدون دون حراك. شعور الانتقام الوهمي يبعث في سريرتهم أمل الحرية والعدالة التي يقطف براعمها سيدهم بمنجل سوطه مع اشراقة كل شمس. كم هو متناقض هذا الوجود الذي تُشرق شمسه على الأرض معلنة فجراً جديداً بينما تكون اشراقتها على هؤلاء العمال إيذاناً بقطف براعم أملهم فوق أرض يحرثونها كالدواب تحت نير عبودية أسماها البعض وطناً وختم كل الرعاع بوشم السيد الذي يتخذ النواميس ستار جلجلة عذابه.
تصارخت الأحذية المنهكة وتكاتفت مؤازرة بعضها بعضاً لتستقر على جيفة أرضٍ رطبةٍ عفنة. تجمعت أكوام الأحذية ينزُّ عاليها على سافلها بقايا يوم عصيب. لم يسمع صراخها بشر، ولم يكترث لبؤسها ذي روح. أنين الأحذية طال ككل يوم، لكنه لم يمر كبقية الأيام. كان الحذاء العجوز يتكىء على أرضية موحلة فوق حذاء صغير مزقته قدم صلفة بين نتوءات صخرية ذاك الصباح. أنَّات الصغير حركت مسامير الكبير فوخذه مواسياً وأحدث في جلده جرحاً. صاح الصغير متألماً “لقد آذيتني يا كبير”. غضب الكبير وقال “أواسيك فتقل في أدبك“
رد الصغير بأنين: أي دلال وأنت تنكأ جراحي.
الكبير: يا بني، عليك أن تتعلم كيف تتعايش مع الألم الصغير حتى تبني مناعة ضد الألم الأكبر.
بهت الصغير وقال: ما هذه المقولة الكاذبة أيها الكبير. عليك أن تتمرد على الألم الصغير حتى لا تصاب بالكبير.
غضب الحذاء العجوز ورفسه حتى قطع رباطه وقال: تأدب يا حذاء البُلداء. إنها سُنَّة الأحذية، عليك أن تُداس وتسكت، أن يغمرك الوحل وتفرح، أن تهترئ أوصالك على الطرقات الوعرة ومؤخرات الضعفاء دون شكوى.
الصغير: سمعت في المصنع الذي وهبني الحياة بأن بعض الأحذية تذهب إلى بشر يقدِّرونها، ويدللونها بالعناية بل قد يتركونها أياماً في راحة تامة.
الكبير: إنه قدرنا أيها الحذاء الوقح. إياك أن تفكر في غيرك، أنت هنا مجرد حذاء في أقدام مستعبدة. أنت عبد العبيد.
الصغير: لا، أنا حذاء معتبر وصاحب لون براق، أنا من جلد فاخر كما كل الأحذية. لن أرضى بالإهانة. سأتمرد على عفنكم، على تراثكم المشبع بالروائح الكريهة، على ظلمة هذا القبو العفن بل سأتمرد على أقدام العبيد التي تقتحمنا كل يوم. لن أكون في قدم ذليلة.
هتف حذاء ممزق عتي من بعيد: اعلم أيها الصغير بأنك قد فقدت عذرية وجودك بقدم ما مما يلزمك بالوفاء لصاحب تلك القدم مهما أذلك وأهانك… من سيلبس حذاء عليه آثار قدم أخرى.
قال الكبير: الجيل الجديد لا يفهم معنى الوفاء لمن آواه وأعطاه معنى للحياة.
تمرد الصغير وقال: بل الجريمة أن أرضى بالمذلة، ولدت حذاء فاخراً ولن أموت إلا في قدم أختارها.
ضحكت بعض الأحذية بجنون لم يقطعه إلا صوت حذاء منزوٍ: نعم، لا للاستعباد، علينا اختيار الأقدام التي تقتحم أعماقنا.
صاح آخر: نريد ألواناً. فيما يئن البقية بصوت متقطع: نريد يوم راحة في هواء طلق.
ونادى حذاء قديم مضمحل من ظلمة الليل: تمردوا قبل أن تصبحوا جيفة مثلي.
رد الكبير: أنا كبيركم وأعلم مصلحتكم كابر عن كابر… ناموا في قذارتكم، بللوا أنفسكم بعفانة وجودكم واشكروا الخالق على أنكم أصبحتم أحذية. ألم تسمعوا حكمة الأجداد: كل حذاء جدير بما قُسم له من بلاء.
تمرد حذاء فتي وقال: لا، لا تصدقوا هذا العجوز… انه ليس القَدر، إنه الجبن الذي زرع فينا. الصغير قال الحقيقة. نحن خلقنا لنكون بهجة الأحرار لا عبيد المستعبَدين. لن أكون في قدم أضنتها السياط ولن أكون في قبو تلتهمنا فيه الجرذان والحشرات. ألا يكفيني ذلاً أن فقدت أربطتي وبقر بطني جرذ لعين بعدما تقيأ بداخلي.
تضاربت الأحذية، وتلاعنت بكل الشتائم حتى ضج العمال بضجيجهم ونزلوا إلى القبو متسائلين. سمعوا مقولة الشباب والسلف، الداعين للحرية والخانعين، أصحاب الأمل وعبَّاد القدرية. وقف أحد العمال صائحاً برفاقه: تباً لكم أيها العمال، ألا تستحون من أن تضعوا في أقدامكم المستعبدة أحذية حرة… ألا تخجلوا من أن تدوس أقدامكم الملتهبة بسياط العبودية أحذية تمردت على قذارتنا وحقارتنا. هلمُّوا حفاة عراة إلى صاحب السوط واجلدوه حتى الموت ولا تعودوا إلى هذه الأحذية إلا وأنتم شرف لها. كيف لنا أن نغذي الوحش الكبير ونقدم له أرواحنا ليحيا برفاهية اذلالنا، ويكبر بضعفنا. العار ثم العار أن يشرق النهار ونحن مربوطين إلى قافلة الفناء بعقال الجبن والخوف.
سقط السوط من يد الطاغية ورفاق ماخوره الاستبدادي في ثورة دموية جارفة، واستشهد كثير من أصحاب الأحذية العفنة أحراراً.
دفن الأحرار في مقبرة جماعية واحدة عراة إلا من أحذيتهم الشريفة.
في غرفة الأحذية عند قبو تحت سكن عمال الشركة الساحقة تتزاحم أنواع الأحذية عند المساء بينما يتقهقر النور سارقاً ألوانها ماسحاً هويتها بينما تفوح روائحها المستقاه من معاناة العبودية والمذلة في عمل متواصل تُعلن بدايته أشعة شمس حارقة يحرسها سوط رب العمل بجبروت لا يرتدع. ربٌ لا يقلل من جبروته إلا ظلام الليل وعتمته التي تجمعه بأرباب السياط في حانة الوطن حيث يتباهى كلٌ منهم بعظمة مزرعته وخنوع مواليه.
محمد إقبال حرب