المرضع الجدباء

صحوت من يقظتي فرحاً مسروراً وأدركني من الوجود حبوراً. فكأنني الوحيد الذي يشتم من الكون ربيعاً مستوراً. فرحت لي ذاتي وبشت ملكاتي حتى خرجت من طور البشر فرقصت وغنيت ثم ركضت وركضت فوق البراري والبحار حتى غادرت الديار.

لست أدري كيف وصل بي الحال إلى بلاد الصومال، بلاد جرداء شعثاء لا رقة فيها ولا جمال. تنغصت ملكاتي من الأرض الحراء، وأصابها القحط بجفاء، وقساوة الطقس بغثاء. سقطت على الأرض بجانب أشلاء تناثر منها البلاء، تسلَّلَت على آثارها أنزيمات السعادة خارج كياني وتهشمت من وجنتي تقاسيم السرور حتى غشتني رهبة عابر بين القبور. جمعت ذاتي كي ألوذ بالفرار قبل انقضاء النهار من بؤس الديار. غير أن الأركان أصابها الهوان والأقدام أصبحت في خبر كان.

وكأن الدهر قد جثا على صدري في مكان أحسسته قبري لولا أنين نواح تسلل عبر الهواء اليابس والرعب القارص. استدارت أركاني جهة الصوت فإذ به شبح أنثى شاحبة تصطك منها الوجنات على صدغ نابئ، تحمل هيكلاً عظمياً يرضع من ثدي أجدب كليل على صدرٍ منهدل عليل. أردت أن أردد الشهادتين بعدما حملقت في أعماقي تلك العينين. غير أنني رأيت خلفها أطياف هياكل مغطاة بقشرة البشر. هذه قشرة يابسة وتلك عظام بارزة في صدر صبي. وفي البعيد صبية ملقاة على الارض بشعر أغبر أشعث على رأس ضامر تسقط منه شفاه كتمر خلوف على رمال ملتهبة.

لا لا أين أنا؟ إنه كابوس مرعب. سكتُّ قليلاً ثم صرخت متسائلاً وزدت وأردفت هل هذه جهنم التي يعذَّب فيها الكفار؟ يا رب كيف أُعذب قبل الحساب بل قبل أن أموت وكيف تضعني مع هؤلاء الأوغاد!

نظرت اليَّ المرضعة الجدباء نظرة سخرية وجفاء. ثم وضعت رضيعها على الأرض اليابسة والحفته الهواء. ركعت على ركبتين كأنهما عصيان شجرة منسية من شجرة كانت باسقة في أيام هنية. نظرت إلى الأشلاء فرفعوا أكفهم إلى السماء كأنهم ينتظرون غيثاً أو سكوناً قبل بلاء.

نظرت معهم إلى العلياء بعيون تناجي رب السماء وقالت:

يا رباه يا من ابتليتنا بالقحط والمجاعة بعد حروب وفظاعة. نسألك الرحمة والغفران والرأفة بما تَقَرَّر من بلاء وأكثر. يا رب جفت الآبار وشحت الأمطار كما عششت الحشرات في جثث الأحياء والأموات… هُتكت أعراض الصبايا في وضح النهار من غريب وجار، وقتل الرجال في عمق الديار. رباه زاغت الأبصار واختلط الليل بالنهار من شدة الخوف وطول الانتظار. فلم يعد في الضرع غذاء، وسعينا للطعام ذهب هباء. فلا حلوب في الديار ولا طلٌّ من أمطار. رباه، جفت الدماء من فلذات الأكباد وباتت هياكل بلا خيال. أصبحنا أشباحاً، أجساداً بلا أرواح. الغوث الغوث يا رحمن.

صمتت وبكت ثم ناحت وأجهشت دون دمع يبل المآقي ولا صوت يشبه صوت الراقي. ثم قالت وهي تنظر اليَّ كأنها تعرفني منذ أمد بعيد: يا رب لقد زدتنا اليوم فوق بلائنا بلاء فجاءنا السمين سارق الغذاء. هذا المخلوق اللعين الذي يأكل أكلنا ويسرق قوتنا ثم يلعن أرضنا وينعتها بأرض البلاء. رباه، ألا يدري بأن جوعنا من تخمته، وجفاف دمائنا من سرقته. يا رب أليس هذا من بلاد الغزاة ناهبي الخيرات؟ أليس هذا من تجار البشر الهائمين في البلاد يسرقون البنين والبنات لبيعهم في المزادات. رحماك يا رب من شر ما خلقت. لا أدري ما هو هذا المخلوق السمين، طيب أم شرير. لكنه غثٌّ بدين، متخم لعين… يا رب أعده من حيث جاء قبل أن نراه عجلاً ونضعه للشواء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s